الفصل الخامس: وابتدا.. ابتدا المشوار
أنهيت مشوار الثانوية العامة بمجموع ضعيف، لم يؤهلني لتحقيق أمل أمي بأن أصبح طبيباً فانتسبت لإحدى الجامعات الأهلية لدراسة هندسة الكمبيوتر.. ولكن كيف للحظ أن يبتسم؟!
لم أكمل ستة أشهر حتى زادت مصاعب أمي المادية، فتوقفت عن الدراسة الباهظة التكاليف.. وحان وقت الغوص في بحار المشقة للبحث عن لقمة العيش.. يبعد العمل عنا ثلاث سيئات: الضجر، الرزيلة، الحاجة "فولتير"!
قانون أبي: سندريلا لا.. سوبرمان نعم!
مع توقفي عن الدراسة قررت أن أغزو الحياة العملية حتى أشارك أمي وأختي حملهما الثقيل لارتفاع ثمن الهرمونات التي كان من المفترض أن أتناولها بدون انقطاع..
ولمعت الفكرة في رأسي حيث كان أبي رحمه الله يمتلك النوعين من أجهزة الفيديو: الأول لعرض الأشرطة من الحجم الكبير، وكان هو الشائع.. والثاني للأشرطة ذات الحجم الصغير.. وكانت العائلات التي تقتني الفيديو هي الأكثر حظّاً لغلاء ثمنه...
وإذا كان من الصعب وجود فيديو واحد في المنزل، فما بالك باثنين؟ وقد كان للفيديو قبل الفضائيات والصحون اللاقطة وزن في عالم الإلكترونيات الحديث، وقبل غزو النت لعالمنا.. تذكرت كم من مرة أصبت بالهلع عندما كان يأتي الوالد مباغتة إلى المنزل ويجدني جالساً أتابع شريط قصة سندريلا، فيبدأ في الصراخ بعد أن يمسك بي من أذني اليمنى وأنا أرتعش خوفاً:
- كل آمالك يا خنيث أن تصبح سندريلا؟! ألا تريد يوماً أن تكون سوبرمان؟ ألا تريد أن تصبح سندباد؟ ولم لا تحب الباتمان يا حبيب أمك؟! أأقتلك وأرتاح منك ومن عارك الأبدي؟
تأتي أمي مسرعة على صوته الهادر تحاول تهدئته: مالك يا أحمد؟ ولماذا تنسى أنه طفل، ولا داعي لأن يسمع هذا الكلام السيئ؟!
لم يكن أبداً ليهدأ.. أنظر إلى عينيه الباردتين مثل جليد، والحاقدتين على العالم , مرعوباً أنتظر انتهاء السيناريو المكرر، وأرتعش وأنا أعلم بأنه سيحرق وجهي بلطماته المتتابعة حتى يكل، وأنا أبكي بلا صوت وبلا دموع؛ لأنها محرمة على الرجال - كما كان يقول لي - وخوفاً من استفزازه أكثر وأكثر، وإعطائه المبرر لطحني تحت يديه الثقيلتين..
تنزعني أمي بعد كفاح من بين يديه وهي تصرخ: حرام عليك! من أين لك بكل تلك القسوة؟ ألا تدرك بأن حالته محنة واختبار لك من عند الله؟
يجلس أبي واضعاً رأسه بين يديه مردداً بصوت باكٍ:
- ولم اختصني أنا بهذه المحنة والاختبار القاسي الأليم؟ ألا يحق لي بعد طول الانتظار أن يكون لي ابن طبيعي؟ ابن أفاخر به الآخرين ولا أخجل من كونه معي.. ابن لا تلهبني النظرات والأسئلة إذا ما خرجت معه لأي مكان؟
لم أحب يوماً أبي.. كنت كثيراً ما أتمني أن يتركني أرحل؛ ليغمر روحي شعور بالدفء، وأنا بعيد عنه، فلا أعود أستمع لتعليقاته المحرجة كل يوم.
لم يحاول أن يتفهم حالتي أبداً.. أغلق أذنيه عن الاستماع لأمي بأنه من الضروري أن يتابعني طبيب حتى يعرف الخلل..
كيف كان للغرور أن ينحني، وللقسوة أن تلين، وللشموخ أن يسقط من عليائه؟!
كانت وصيته الدائمة لأمي أن تكون شديدة في التعامل معي؛ إذ هي السبب في إفسادي بتدليلها إياي! وبأنني لن أصبح رجلاً إلا إذا قست علي..
وكنت كلما رأيت أمي دامعة العينين أعجب لأمرها، وأبرر لها مشاعرها الدافئة التي كانت تحملها له، وهو الذي ما أحب عليها أخرى قط.
حتى أختي سحر حزنت عليه حزناً شديداً، وسامحتني لما كنت أحمله له من مشاعر البغض، وبررتها بقسوته علي..
أما الآن - ومع تقدمي في العمر، وإدراكي لأشياء كثيرة - فقد بدأت أهمس لنفسي "سامحه الله"
الوحل يخفي الياقوتة.. لكن لا يلطخها ...
انسالت كل تلك الذكريات فجأة، بعد أن قررت بأن يكون الفيديو مصدر دخل لنا، فتفتق ذهني لاستغلاله في مجال نسخ الأشرطة لمن أعرفهم من الطلاب أصدقائي الذين توطدت علاقتي بالكثير منهم أثناء انتظامي في المدرسة الثانوية.
كنت في البداية أنسخ أفلام الرعب والعنف والآكشن والخيال العلمي، حتى طلب مني أحدهم نسخ شريط قال إنه ثقافي.. ولم أفهم معنى كلمة ثقافي حتى رأيته! كان هذا الشريط الذي شاهدته كاملاً فيلماً جنسيّاً صارخاً، لا مواربة فيه ولا أقنعة! لكم صدمتني الآلية البشعة في تلك العلاقة التي من المفترض أن تكون حميمة وسرية للحفاظ على تألقها.
رفضت في البداية نسخه، ولكن السعر المرتفع الذي عرضه على جعلني أوافق، مع حاجتي الملحة للنقود لشراء الدواء.
ازداد عدد طلاب الشرائط (الثقافية) المستنسخة، وكان الزبائن الذين يطلبونها من كل الشرائح! وقد أصبح بيني وبينهم حالة نشطة من العرض، والطلب، والمصالح المتبادلة. كم أذهلني تهافت أولئكم على وضع الأقنعة، والتظاهر بالأدب والاحترام بين الناس، وهم غير ذلك.
ما علينا على رأي صديقي جهاد الذي زعق فيّ لما رأى في بعض التردد: وانت مالك؟ يا رب يولعوا بكاز، المهم المصاري، بدِّناش أدب ولا زفت.
أصبحت أفلام الجنس أهم الأشرطة عندي، واحتلت المرتبة الأولى في التداول والنسخ! كان الجميع يتهافتون عليها، لا فرق بين رجل وامرأة؛ فالخجل نثر خارج عتبتي، إذ اعتبرتني الفتيات واحدة منهن، واعتبرني الرجال منتمياً لعالمهم، فوجدت الجرأة من الطرفين. وكانوا يفاصلون في الثمن، رغم أن السعر الذي أطالب به أقل من نصف سعر السوق!
توطدت علاقتي بزبائني، واختفت علامات الاستهجان عند رؤيتي، وتحولت لنظرات إعجاب؛ رغم أنني كنت أشمئز من سلوكي هذا!
قال لي حبي الأول جهاد ذات يوم - وهو يتسلم مني شريطه المستنسخ -: أيوه يا عم الله ينور.. شغال نار.. انسخ واقبض.. وحوش على قلبك، واستطرد متسائلاً: ولك يا نداء: شو بيحصلك لما تشوف الشرايط الثقافية؟ بتحب تكون مع النسوان ولا الرجال؟ وشو اللي بعجبك فيهم؟ ما جربت تنام مع حدا؟ أعتقد انك تنفع للتنين.. النسوان والرجال!؟
كان عندما يجد نظرة الاستهجان تطل من عيني يضحك ضحكة عالية صافية، وعلى غرة يمسك بي، ويقرصني من ثديي، وينظر في عيني ويقول:
- والله أنت أحلى من ميت مره، ليش أنت خجلان هيك؟ ارمي البنت اللي جواك بالصرمه يا زلمه، دوق اللي عمرك ما تشبع منه.
آه من عينيك وشقاوتك يا جهاد.. وآه لو تشعر بي ولو مرة.. ولكنك تتعامل معي كأخيك الرجل الصغير!
اعتراني الخجل من أسئلته، واحمر وجهي وقلت:
- هل تصدقني؟
- طبعا وليش لأ ؟
- أنا لست مثلك، لا أفكر مثلك إلا في الجنس وبس.. هناك هموم كثيرة تحرقني غير هذا الهم.
- اطلع من هادول يا ساهي، بدك تفهمني انك حمار وما بتحس، يخرب بيتك إن شاالله.
- والله يا جهاد لو بدي ما في أسهل منها، فكم من مرات ومرات أمسكت نفسي، رافضاً العروض التي يوفرها لي بعض الذكور الأنذال لممارسة الشذوذ معهم، في مجتمعات تلبس قناع الفضيلة والدين، وكم من فتيات ونساء عرضن على أنفسهن دون فائدة، فلي هدف آخر هو عملية التحويل؛ على الأقل أكون بنت كاملة.. منشان هيك أنا بدي جسمي طاهر وعفيف.
مرة أخرى كركر جهاد بضحكة عالية معلقاً على كلامي: عفيفة؟ يادي المصيبة.. الواد عاوز يبقى عفيفة يا جدعان.. آه يا أهبل.. لو جربت أن تذيب جسدك في جسد إحداهن.. بصرك وهو يزوغ.. النار وهي تشتعل تدريجيّاً.. نعومة الحرير.. الحركة المتناغمة بينكما.. عناق واشتهاء في الليل تغطيكما عباءة الحب والجنس.. ثم جنونكما وهو ينثر في الهواء، وأفق بلا نهاية.. آل عفيفة آل! يا سيدي جرب قبل ما تعمل العملية وبعدها يحلها حلال.. بس ربك والحق يا مضروب أنت بدون عمليه تحل على مشنقه، يعني باختصار أنت فلقة قمر.
تبخرت كقطرة ماء انتظرت بصبر لحظات تبخرها حتى تعود للأرض في شكل غيمة من المطر، وتساءلت بيني وبين نفسي:
- إلى متى ستغلبني الفتاة التي أحب أن أكونها تتجول بحرية داخلي؟ وإلى متي سيبقي قلبي أسير هذا الجهاد؟ ما أسوأ أن يخفق قلبك لمن لا يشعر بك! كيف أثبت له بأنني بكر لم يمسسني بشر؟
تمنيت أن أبوح له بحبي، وأن أغوص في عينيه البحريتين الجميلتين، وأهمس له باحتراقي في أتون حبه، وأشرح كم تخيلت نفسي في أحضانه، وكم من مرات غبت عن الكون معه في الخيال، وأن أجهر بآلامي الخرساء التي لا ينوء بها سواي لتضيء مغارات نفسي السحيقة التي تعكس ظلمتها أوجاعاً تنسل وتحط ساكنة فوق قلبي، ولكن فجأة صحوت على صوته وهو يسأل: ماذا كان يريد منك أبو أسعد بالأمس؟
ضحكت للانتقال غير المنطقي في الحديث وقلت له: جاء للمساومة.. رجل عملي.. يريد أن يطبق ما يراه من أفلام شاذة، يرجو الوصال معي، فإن وافقت سيجعلني أعيش في بحبوحة ليوم الدين..
- مش فاهم.. شو قصدك ؟
- طلب مني أن أذهب معه إلى شقته الخاصة!!
- نعم.. شو بتقول!؟ وشو راح يعمل بيك أبو أسعد أكبر تاجر في بيت لحم.. صاحب الشركات الكثيرة.. المتدين الذي لا يفوت فرض في المسجد.. المتزوج من مره يشتهيها كل الرجال، لجمالها العبقري؟!
- روح اسأله.. ليش بتسألني أنا ؟
- واد يا نداء أنت تكذب.. ولاده ما شاء الله عليهم، وبعدين هو كيف بده يتعامل معك وأنت مش مبين عليك لا هيك ولا هيك، هذا المتخلف لو قال يا بنات.. ستين ألف واحدة تجري وراه منشان فلوسه! الراجل انجن!
- جهاد ما تنسي إني الوحيد الذي يستطيع أن يعرف كل واحد منكم على حقيقته، وبدون أن يخجل من الأقنعة الكاذبة التي يرتديها أمام الآخرين.. ثم لماذا أكذب عليك؟
هل بيني وبين أبي أسعد أي خصومة؟ على العكس.. هو عميل دائم وكريم ودائماً يعطيني أكثر مما أطلب. ثم لماذا لا تسأله ماذا يريد مني؛ فهو الأقدر على الإجابة؟
لست أدري لماذا قلت لجهاد ما حدث من أبي أسعد؟ ربما أردت أن أثير غيرته، وأن أكون شريراً مع أبي أسعد، وأنثر أسراره، عبر أفواه الكثيرين من الذين سيبلغهم جهاد بالحكاية، بعد أن أصابني القرف من طلبه، خاصة أنني جلست للمرة الألف أتساءل بيني وبين نفسي إن وافقت على طلب أحدهم: كيف سيتعامل معي؟ وبماذا سأشعر ؟ وكيف سأحصل على متعتي وأنا بين الرجل والمرأة؟
صور لي شيطاني أبا أسعد وهو ينظر إلى أعضائي المنكمشة، وكيف سيتحسس جسدي، وينبهر بصغر ثديي، وقد فتح عينيه عن آخرهما، وكأنه يحفر لتلك الصورة في ذاكرته؛ ليستدعيها كلما عن له أن يأتيني، هامساً:- استديري أيتها الجميلة.
تناول جهاد شريطه "الثقافي" الذي طلب مني نسخه، وقال: الله يخرب بيتك يا بو أسعد.. دا انت طلعت زبالة.. صدمتني يا نداء فيه..
- ما تزعلش يا سيدي على غالي؛ دا مش بس أبو أسعد اللي طلب الطلب ده، هناك كثييييير..
تجولت سياط الدهشة في عيني جهاد، ونزلت عليه بقسوة لتجوب نفسه، وتثقلها بخدر غير مألوف لتصحو لحظة صدق ونقاء، فيردد بقلب موجوع:
- برافو عليك يا نداء.. أنت أقوى مني؛ فأنا لا أستطيع مقاومة إغراء النساء.
فرحت لإطرائه وقلت له: الله يهديك.. إيش أخبار ست عبلة معك؟
- من زمان ما شفتها، كنها شافت حدا غيري، كل ما اروح الها بعد ما يخرج زوجها، تقول لي ألف حجة: سيعود بعد قليل، أنا خايفة.. أخي جاي هلأ، المهم أنا زهقت من كل النسوان وبدي اشتغل، أمي وابويا تمللوا مني.. إيش رأيك تشوفلي شغل عند حدا من زباينك الكتار، حتى لو كان الزفت أبا أسعد..
وعدته خيراً قبل أن يغادرني، ازداد الإقبال علي، وقرر الجميع التعامل معي على أنني فتاة مسترجلة! وأصبح لي كياني التجاري ولم أبلغ التاسعة عشرة بعد.. وتطورت الأمور وأطلق علي لقب الألي، لتعلقي بالتكنولوجيا..
كان هذا اللقب أفضل بكثير من ألقابي السابقة (سالي وسلمى وساندي بل ولينا وفلونة والمعجزة البيضاء!) جميع بطلات أفلام الكرتون التي كانت تعرض وقتها، و هو على الأقل اسم ذكوري طالما تمنيته..
ازداد دخلي، واستطعت شراء الأدوية والهرمونات الضرورية، وأن أخفف عبء شرائها عن كاهل أمي.. أما الفحوص الشهرية لمتابعة التطورات في حالتي فقد كنت أجريها في مختبرات خاصة غالية السعر؛ لعدم استطاعتي التعامل مع المختبرات الحكومية القذرة والتي كانت مجانية، ولكنها لم تكن تتمتع بأي جانب إنساني...
والمضحك في الأمر أن ضميري كان يشكوني إلى نفسي، ويلزمني بتتبع خطوات الشرف، ويمنعني من نسخ الشرائط الإباحية في حالة وجود فائض من أدويتي، والتي ما إن تنفد حتى تعود ريما لعادتها القديمة، وأرضي بتسجيل نفسي في سجل القوادين حتى أحصل على المال، لتبدأ دورة شراء الأدوية وتخزينها.
أهدتني أختي سحر وزوجها سعيد "كمبيوتر" أصبح فيما بعد عالمي الذي لا أمل الجلوس إليه، أبثه شكواي دون تذمر منه.
على الإنترنت أصبح اسمي "شمس" وكونت مجموعة خاصة لمن هم مثل حالتي؛ لأتعرف على نفسي من خلال الآخرين، ويا لهول ما وجدت!
خلال ستة أشهر التحق بالمجموعة أكثر من ستمائة شخص، يتبادلون حكاياتهم الأليمة، ومن كل البلدان العربية: سعوديين، كويتيين، لبنانيين، مصريين ومن كل الجنسيات العربية! تجرأت أكثر فكنت أدخل منتديات متعددة بعد أن أسجل في الموقع الذي أريد، وأشرح حالتي، وأتناقش فيها مع أطباء حول إمكانية تحويلي.. وكثيراً ما كنت أصدم بارتفاع تكاليف العملية، مع الكثير من المحاذير الأخلاقية المفروضة عليها في العالم العربي، كما هالني العدد الكبير الذي يعاني نفس الحالة في عالمنا العربي السعيد! وباعتبار أن هناك حالة بين كل ألف حالة، فإننا نشكل - وحسب تعداد العالم العربي – ربع مليون مشكلة؛ أي إن هناك شعباً بكامله يحتاج إلى التعاطف والشفقة والتوجيه الصحيح،لنصبح أداة فاعلة مؤثرة في المجتمعات!
آه وألف آه.. كم نختلف عنهم..!
انتسبت أون لاين لإحدى الجمعيات الأمريكية للـ "شي مال" كما يطلقون علينا، دخلت إلى منتدياتهم، وجدت المئات منهم، ولكن القليل منهم اهتم بتثقيف نفسه، وتحدى أعراض المرض؛ فأحاديثهم فارغة، وقصصهم مختصرة وسطحية وغير موجعة.. يتعايشون في مجتمعاتهم يعملون وينخرطون بحرية.. يعامَلون معاملة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتوفر لهم دولهم الدعم من كل النواحي. مشاكلهم تبدأ وتنتهي حول الجنس، والغالبية منهم تقبله المجتمع، وتآلف مع نفسه! لم ألمس جراحهم، لم أتحسس مواجعهم وكآباتهم.. لم تعاقبهم تقاليدهم على شيء لم يرتكبوه بأنفسهم.. أجسادهم غير مشتاقة للموت مثلنا.. أوطانهم لم تصلبهم فوق حوائط اللامبالاة.. ذنوبهم خارج دائرة الاتهام.. ومع ذلك، فقدوا كل الأحاسيس المرهفة، وتعاملوا بأجسادهم كسلعة تدر عليهم الأموال.
ذهلت لكثرة عدد الأعضاء المنتسبين لتلك الجمعيات، وسعدت لأني لم أكن وحيداً في هذا العالم على الرغم من عدم استطاعتي التمتع بالخدمات التي تقدمها تلك الجمعيات للمنتسبين إليها.
أما نحن العرب فمكسورون كأعشاب الخريف.. عقولنا غارقة بالظلمة والجهل.. تدور بنا عجلات الزمان وننسى من نحن، ليذكرنا الآخرون بأننا من نسل الشيطان.... محرومون من أمانينا وأصواتنا وذكرياتنا.. مقتلعون كالحرام من قلوب أحبائنا.. نخاف من خليط أصواتنا وأشكالنا.. وعند الفجر يشهد أقرب الناس لقلوبنا - وبكل فرح وارتياح - محاولاتنا الانتحار.. لأننا عار على أسرنا ومجتمعاتنا.. كيف لا توجد ولا جمعية عربية واحدة تهتم بشؤوننا، وتعمل على بنائنا وغرس الإيمان في نفوسنا، وتوجيهنا نحو جمال وثبات قيمنا لتحمينا من غوائل الزمان!؟ هذا باختصار هو حالنا..
الأرض كلها وطني.. والعشيرة عشيرتي "جبران"
ذات يوم جاءني جهاد عارضاً على الذهاب للعمل في مستعمرة "بتاح تكفا" لاحتياجهم الشديد لعمال من كل التخصصات. سألته بحدة:
- أنا أعمل عند اليهود؟ إنت جنيت!
- يا عم قول يا باسط؛ آلاف العمال من كل الجنسيات العربية يعملون هناك، عاجبك حالك هنا، والأفلام الزفت اللي بتنسخها، والله العمل في إسرائيل أشرف.
- والله معك حق يا جهاد، ولكن ماذا سأعمل هناك؟ وهل سيتقبلون شكلي ووضعي؟
- وماله وضعك يا سيدي؟ ما انت متل القرد هيك، المهم نروح بالأول وبعدين يحلها ميت حلال، صاحبي حمدان السعدان بيلهف 100 شيكل باليوم، ويمكن أكثر.
- أمي لن توافق على سفري..
- اترك أمك علي...
بالرغم من تقبلي لفكرة السفر، واطمئناني لوجود جهاد معي، كنت دوماً أخشى التغيير والوجوه الجديدة، وطوفان الأسئلة الذي سيحاصرني، واضطراري لشرح حالتي لكل من طاف بباله أن يسألني أسئلة تجاوزتها من زمن بعيد..
بعد عناء شديد ومحاولات شتى لإقناع أمي وسحر بأن أسافر للعمل في إسرائيل مع جهاد، الذي وعدها بحمايتي، وتدبير العمل والسكن معه، وافقت؛ بشرط أن أواظب على الصلاة وقراءة القرآن، وأن أزور خالاً لها يسكن تل أبيب..
وعلى الرغم من أنني كثيرا ما كنت أكذب عليها بشأن الصلاة، مؤكداً لها أنني أواظب عليها، إلا أنني بيني وبين نفسي كنت على صدود كبير بسبب عادات لبست ثوب الدين، وتفننت في إيذاء مشاعري، ولكن لسبب لا أدركه قررت فجأة المواظبة على الصلاة كما أرادت بالضبط.
ما أبعدَ الشيءَ إذا الشيءُ فُقد.. وما أقرب الشيء إذا الشيء وُجد"أبو العتاهية"
استقبلنا حمدان صديق جهاد استقبالاً حارّاً وقال: لقد رتبت كل شيء مع رافاييل مدير الصالة.. وهو سيشرح لكم طبيعة عمل كل منكما..
- ومتى سنرى هذا الزفت رافاييل؟
- لسانك هاد بده قص يا جهاد، هون الناس محترمة وبدها شغل وبس.
فجأة نظر إلى حمدان وغمز بعينه وقال: خليك حلو مثل القمر اللي بجنبك.. والله يا نداء حتصير هون في الصالة فاكهة الشباب..
ثم أكمل وكأنه لم يقل شيئاً:
- الراتب 100 شيكل لكل منكما يوميّاً، وممنوع الحكي بالسياسة.
ضحك جهاد ضحكته الصافية التي أحبها وبسرعه رد:
- يعني هاذا شكل سياسيين، ولك يازلمه أنا ما بهفم غير لغة النسوان والفلوس! وعلي رأي المثل "خلصني وخذ عباتي".
كانت صالة كلاسيكا للأفراح أكبر صالة أفراح في مستعمرة بتاح تكفا، تضم قاعتين كبيرتين تسع كل واحدة منهما خمسمائة مدعو، وكافتريا تفتح على مدار اليوم، وتقدم كل ما تشتهيه الأنفس بتخفيض خاص للعاملين فيها، كما تضم قاعة عرض سينمائي تتسع لمائتي شخص تعرض أحدث الأفلام العربية والأمريكية وحتى الهندية، خلف المبني يقوم سكن للعاملين فيها يضم عشرين غرفة بالحمام الخاص لكل منها ، مفروشة بأناقة لشخصين وبين كل سرير يفصل "بارتشن" لتحقيق الخصوصية، غالبية العاملين فيها من الشباب العربي الفلسطيني اللبناني السوري والمصري، وقلة من اليهود أتوا من مستعمرات أخرى للعمل في نظام الإضاءة..
سلمنا حمدان مفتاحين للحجرة التي ستضمني أنا وجهاد وقال: ارتاحا الآن وغداً تقابلان المعلم رفاييل ليعرفكما بقواعد الشغل.
في طريقنا للغرفة تقابلنا مع كثير من الشباب الذين ألقوا التحية علينا سريعاً، ولكن أحدهم استوقفنا سائلاً: أهلاً وسهلاً؟
ونظر إلى وقال: غريبة.. أول مره يسكنوا بنات معانا! دي أختك؟
رد جهاد الناطق الرسمي، وقد بدا الضيق في نبرات صوته: لأ يا سيدي دي بنت خالتي..
- وحتسكن ازاي لوحدها؟ دي كل أوده لاتنين، وما فيش حد بيسكن لوحده..
- ما فيش مشاكل عندنا، حنسكن سوا أنا وهي..
- هو انتم متجوزين؟
- لأ يا سيدي؛ أصحاب وحبايب. بقول لسيادتك إيه: هريتنا أسئلة: انت اسمك أيه؟
- أنا آسف اسمي، محمد عبد السلام من مصر، وبشتغل في الكافتريا..
- طيب يا سي محمد: نشوف وشك على خير مرة تانية، عشان إحنا عايزين ننام.
سأل: طيب كام رقم أودتكم؟
بتأفف شديد أجاب جهاد: 26
- أنا آسف إن كنت ضايقتكم، بس كده احنا طلعنا جيران، وحنشوفكم كتير أنا وزيدان شريكي في الأوده دايماً بنكون في وقت الراحة في صالة التلفزيون أو المكتبة إذا حبيتم.. على فكرة: نسيت أسأل حضراتكم: انتم من فين؟
- من جهنم الحمرا عن إذنك..
سحبني جهاد من يدي وأدار ظهره. سمعنا صوت محمد يلاحقنا بالسؤال: اسم أختك أيه؟
- اللي ما تتسماش يا عنيا..
فتح جهاد الغرفة، ووقفنا بانبهار لشدة نظافتها وترتيبها.. فتحنا البلكونة التي تطل على مزارع البرتقال الممتدة.. ذهلت من جمال المنظر الذي اختلط برائحة الأرض، وغامت عيني بدموعها.. جعل جهاد يردد: الله ياخدكم ياليهود..
رددت أنا: والعرب لأ؟
دخلت الغرفة وجلست على كرسي وضع أمام السرير، ضحكت بعدما سمعت جهاد وهو يبرطم: بدأنا المشاكل يا سيدي، وشكلك الحلو حيكون مشكلة يا سي نداء؟
- أنا قلت لك خليني في مكاني أحسن..
- اسكت يا راجل؛ كان عاجبك شغل القوادة اللي بتشتغله؟ على الأقل هون شغل محترم..
- مش كنا رحنا نشتغل في أراضي السلطة..؟
- شو بتقول يا سي نداء؟ عند السلطة الحرامية؟ اللي كل واحد منهم مشغل قبيلته على حساب أموال الشعب المسروقة؟ والله اشتغل عند اليهود أحسن.
- خلص.. اسكت.. مصيبة اللي تاخدهم، مثل ما أخدوا بلادنا، وبيبرطعوا فيها على كيفهم..
- ممنوع الحكي بالسياسة يا فالح، قوم خذ حمام منشان تنام أحسن لك..
فتحت شنطتي، وبدأت في ترتيب ما بها داخل خزانة صممت لتكون جزءاً من الحائط، وأمسكت بالمصحف الذي أهدتني إياه أمي وقبلته، ووضعته فوق رف في الخزانة، وعلى الكومودينو بجانب السرير وضعت صورة لي وأمي وسحر ونحن جالسون في حديقتنا.
نظرت إلى أمي وانتابتني غصة، وعضضت على شفتي حتى لا تفلت دموعي؛ فزمن البكاء فوق صدرها الحنون قد انتهى..
استلقى جهاد فوق سريره بملابسه وغط في النوم، أخذت حمامي وخرجت لأجد شخير جهاد قد علا.. نظرت إلى تقاسيم وجهه البديع، واقتربت منه حتى أريح رأسه فوق الوسادة حتى ينقطع شخيره.. حملت رأسه كقطعة من قلبي أخشى عليها، وأرحته فوق المخدة.. خلعت له حذاءه، وغطيته بروحي، وأخذت مكاني على سريري.. تساءلت بيني وبين نفسي:
هل سأنجح في العمل هنا؟ وهل المجتمع اليهودي سيتعامل بنذالة معي مثل مجتمعنا العربي؟ غرقت في بحار سود من النوم المتقطع، والكوابيس التي تدوس فوق صدري، وعاودني ثعبان كبير برأسين يلتف حول رقبتي، ويفح في وجهي قائلاً: ليس لك مكان في هذا العالم.. استيقظت مرتعباً وغادرت السرير واتجهت إلى الحمام، وفتحت الماء فوق رأسي حتى أفقت، نظرت إلى جهاد وهو ما يزال يغط في النوم وحسدته على خلو باله، خرجت إلى البلكونة أتنفس عبير الليمون والبرتقال الذي أحاط بي من كل الجهات.. وللحظات تذكرت رائحة منزلنا في بيت لحم، نظرت إلى المدينة الكبيرة بأنوارها المتناثرة هنا وهناك فاستشعرت سكونها داخل نفسي، وتعجبت من كبر هذه المستعمرة التي تعد من أقدم المستعمرات الصهيونية التي أنشئت في فلسطين، ونبشت في أرفف عقلي لتنسال المعلومات عنها أمام عيني؛ حيث ساعد جمال المناخ وخصوبة التربة المعطاءة في إنجاح الزراعة لتصبح أكبر مستعمرة تزرع العنب والحمضيات.. وبعد تحسن اقتصادها باستثمار الأموال اليهودية، وبعد أن نجحوا في زراعة مساحة كبيرة من أراضيها، زاد عدد سكانها تدريجيّاً، وامتد العمران فيها حتى تحولت إلى مدينة، وأصبحت عقدة مواصلات هامة تتصل بالمدن الرئيسية مثل كفار سابا وهرتسليا ونتانيا والخضيره وحيفا، وبالمدن الرئيسية الجنوبية مثل اللد الرملة ورحبوت وبير السبع.. أمعنت النظر، وقد دهمت جسدي المشتعل دوماً بالأسئلة لسعة من البرد: لماذا ينجحون في كل شيء، ونحن منذ سنين ينخر الفساد في أجسادنا، ومكانك سر.
كم كنت فيما مضى وعندما اقرأ عن كيفية بناء المستعمرات أعجب من سرعتهم في البناء والتطور والنمو!
بتاح تكفا التي بنيت في زمن قياسي تعتبر المستعمرة الأكبر والأهم، وفيها عدد كبير من المستشفيات والمدارس الزراعية والدينية، بجانب محطة لمراقبة الإشعاعات النووية، كما أنها أصبحت مجمعاً صناعيّاً هامّاً، وتشتهر أيضاً بمنتجاتها الزراعية المتنوعة!
شعرت بالذكريات نصلاً يخترق جلدي، ويصل إلى روحي فيمزقها.. أقفلت البلكونة وتمددت على سريري مرة أخرى في انتظار انبلاج النهار، على أنغام الشخير العالي الذي كان يصدره جهاد.. فيما يعرف بمرحلة السلام، اكتشفت أن الآلاف من الشباب العربي العاطل عن الأمل والعمل يعمل داخل إسرائيل، ويعلق آماله على الكسب هناك..
في الصباح تناولنا الإفطار داخل الكافتريا مع جموع من الشباب من مختلف الجنسيات العربية، وكانوا يلقون علينا تحية الصباح بمودة ظاهرة.. فكلنا هنا غرباء عن أنفسنا وأوطاننا. ومن المؤكد أن الكل كان يسأل نفسه: لم تقذف بنا بلادنا ليلتقطنا عدونا، ويظهر أنه أرفق بنا، ويجعلنا نكفر بفكرة خدمة الوطن والحفاظ على كرامتنا ؟!
كنت أحس بالنظرات تخترقني، مستهجنة من ملامحي، حاسدة جهاد على رفقته الجميلة.
ظهر حمدان مزلزلاً القاعة بصوته وقال:
- هه.. هادا انتو هون يا ملاعين.. صباح الخير كيفكم؟ نمتوا منيح؟
- والله أنا ما دريت بنفسي يا حمدان إلا ونداء يوقظني من أحلى نومة..
- أوكي.. هلحين بدنا نقابل رافاييل، منشان يشرح الكم شو حتشتغلوا.
ذهبنا إلى المعلم رافاييل كما يطلق عليه كل الشباب: رجل في العقد الرابع.. مهندم ببساطة.. سمرته ساحرة.. عيناه خضروان.. ملامحه بشكل عام تدل على النبل..
دعانا للجلوس، وتفحصني جيداً وبإنجليزية سليمة وتلقائية سألني:
- هل إنت خو...........؟
- لا يا معلم، أنا لست كما سألت، إنما أعاني من اختلاط الهوية فقط..
لم يبد عليه أي تأثر أو استهجان، فسأل:
- ما اسمك؟
- نداء..
- أوكي نداء.. عملك سيكون مع العملاء الذين يأتون لحجز قاعات الأفراح، وستسجل كل ما يريدون من أنواع الديكور: ألوانه.. قوائم الطعام.. الزهور، ومن ثم ستسلم القائمة للمسؤول المباشر ديفيد، الذي سيقوم بتوزيعها على من يختص بها..
- ولكن بأي لغة سنتفاهم؟
- ستجد كل اللغات.. فهناك من يتحدث العربية، وهناك من يتحدث الإنجليزية والعبرية والفرنسية وحتى الفارسية.. وعلى فكرة: رئيسك أنت وجهاد يجيد العربية، وعلى كل نحن هنا نتعامل بكل اللغات.. نهاية كل أسبوع سنعطيك 700 شيكل.. من حقك يوم إجازة في الأسبوع تحدده أنت مع المسوؤل المباشر عليك..
قام من مقعده خلف المكتب ليبدو طوله الفارع الآسر، ونظر إلى جهاد وقال:
- أما أنت يا سيد...
- جهاد معلمي..
- أوكي.. لدينا مخزن كبير تابع للقاعة فيه عدة أقسام.. ستكون مسؤولاً عن قسم مستلزمات الموائد من مفارش وأوانٍ وأكواب وصحون وملاعق وشوك.. وكل ما يخص أدوات الموائد.. سيكون لديك أسبوع دوام ليلي وأسبوع صباحي.. مسؤولك المباشر اسمه مردخاي، سيجرد معك الموجودات، وتوقع على قائمة الاستلام، وكلما خرجت قطعة عليك بتسجيلها حتى تتسلمها، وستتبادل معه الدور، وحسبما تتفقان.. عليكما بتقسيم الدوام بينكما، وتحديد الإجازة الأسبوعية لكل منكما..
نطق حمدان أخيراً بالعبرية التي يجيدها وسأل: آخذهم هلأ يشوفوا المكان، ويتعرفوا على الشباب ويبدؤن اليوم؟
عرفت فيما بعد أن حمدان يعمل كوسيط بينهم وبين الشباب الفلسطيني الذي يقنعه بالعمل في إسرائيل، ويأخذ على كل رأس يأتي به 300 شيكل، كما أنه يقوم بأعمال الصيانة الصحية للقاعة فهو سباك ماهر..
وجدت تقبلاً كبيراً لشكلي، ولم ينظر لي أحدهم باستهجان، كما كانوا يفعلون عندما كنت أتمشى داخل بلدتنا، وفي كل خطوة أخطوها فوق أرض وطني، وكأني كائن فضائي غزا الأرض... واكتشفت الفرق بين الحديث عن الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي... التعامل داخل إسرائيل يختلف كليّاً للأسف عن طريقة التعامل في الشأن السياسي الصلف التي اعتدنا عليه من زعماء الصهاينة الذين يعيشون على قتل إخوتنا وأحبابنا، وعلى خداعنا.
بحكم عملي تعرفت على نساء ورجال كثيرين من اليهود، منهم الحقير المتعصب، ومنهم المسالم الطيب..كما تعرفت على الكثيرين من عرب الـ 48...
استطعت في فترة وجيزة أن أحقق نجاحاً في عملي، وأن أتقن اللغة العبرية.. كانت تقارير العمل التي يرفعها ديفيد عني لرافاييل ممتازة؛ حتى إنني تسلمت رسالة شكر من الإدارة، وزيادة في الراتب بعد مرور ستة أشهر من بداية عملي..
كنت كل جمعة عندما أذهب لأمي أضع في يدها 500 شيكل، وأصرف المبلغ المتبقي في شراء بعض الأدوية البديلة أو أي شيء آخر..
وكانت أمي تقوم بتوفير المبلغ لي حتى إذا احتجته آخذه منها.. وقد استقر رأيي بيني وبين نفسي بأن أجري عملية التغيير حتى أصبح أنثى غير كاملة، ولكن على الأقل التي أريدها وأن أكونها..
أوصاني ديفيد بعد أن قصصت عليه قصتي بالذهاب إلى عيادة الدكتور حاييم المتخصص في أمراض العقم والذكورة في نفس المستعمرة، والمشهور جداً في عمليات التحويل..
استقبلني الدكتور حاييم بدفء ومودة شديدة، رابتاً على كتفي.. سلمته كل نتائج الفحوصات التي قمت بها في السابق، ووصفات الهرمونات والبدائل التي أتناولها حتى الآن..
تفحص كل شيء بأناة وهدوء، وكأني المريض الوحيد الذي يزوره؛ رغم ازدحام العيادة..
سألني: لماذا وقع اختيارك على الهرمونات الذكرية، وليس العكس؟
- إنها قصة طويلة يا دكتور، فهذا الاختيار هو اختيار أبي وأمي والجيران والأصحاب وكل البشر، ما عداي.
ابتسم الدكتور وقال: أنتم العرب تحبون الأولاد أكثر، وعلى كلٍّ سنجري فحوصات جديدة الآن لمعرفة مستوى التستيرون، ثم ستبدأ برنامجاً تأهيليّاً لمدة عام، قبل إجراء العملية، حيث سيكون اختلاطك بالنساء والبنات أكثر، كما أنك سترتدي ملابسهن، ولك استشارة نفسية أسبوعية لمدة عام..
- واين سأجري العملية؟
- في مستشفي هداسا..
- هل أجريت تلك العملية كثيراً دكتور؟
- أعتقد بأنك تعلم أن كل حالة من ألف حالة لا بد وأن تكون كثيرة. وعلى كل فلقد أجريت العملية لاثنتين وعشرين حالة وبنجاح..
- وكم تكلفتها تقريباً؟
- 75ألف دولار، شاملة كل شيء، ما عدا البرنامج التأهيلي الذي تدفع الدولة الإسرائيلية مصروفاته كاملة تبرعاً منها..
- ألا توجد جهة تجري تلك العملية مجاناً..
- نعم.. هناك الجمعية الإسرائيلية لفاقدي الهوية أو للـ "شي مال" فإذا كنت منتسباً لها فستقوم بها على نفقتها..
صدمني المبلغ فشكرت الطبيب، وقررت بيني وبين نفسي أن أنسى الأمر لحين ميسرة، وألا أخبر أحداً - حتى جهاد - وسألت الدكتور حاييم إذا كان يسمح لي أن أتصل به للاستشارة في أي أمر يجد على حالتي، فرحب تماماً وقال لي:
أنا أقدر حالتك وصعوبتها؛ لأن اختيار الهرمونات الذكرية من البداية كان خطأً، ولكن على أية حال سأقرر لك علاجاً جديداً، بعد أن تجري التحاليل التي أشرت إليها، وأهلا بك في أي وقت..
لم أكن التقي بجهاد نظراً لتعارض أوقات الدوام إلا يوم الإجازة، والتي اتفقنا على أن تكون في اليوم نفسه؛ حتى نستطيع أن نقطع "السيجر" أو الحاجز مبكراً؛ لنقضي اليوم كاملاً في أحضان أرضنا وعائلتنا..
كنا محسودين من جميع الشباب الذي لا يستطيع العودة إلى بلاده إلا بعد مرور عام أو أكثر؛ نظراً لغلاء تذاكر السفر، وبعد المسافة..
كنت ذات يوم أغط في نومي بمفردي عندما صحوت على دقات متتالية على الباب.. كان من الواضح إصرار صاحبها على إيقاظي.. قمت ومن خلف الباب سألت: من؟
سمعت صوت ديفيد هامساً: أنا..
فتحت الباب فدخل وأسرع بإغلاق الباب..
قلت له: ماذا حدث؟
وبعربيته الركيكة قال: أنا أهبك يا نداء..
ديفيد جيلدمان رجل يختصر المسافات، ويصل سريعاً إلى قلوب من حوله، بضحكته الرائقة.. يعيش بمفرده في المستعمرة، بعد أن ماتت زوجته بسرطان الرئة.. لا يبدو أبداً في السادسة والثلاثين من عمره.. شعره الأشقر الكثيف يعطيه سحراً خاصّاً، مع جبينه الضيق، وعينيه اللوزيتين المبتسمتين، واللتين تجعلانك لا تخشي الهبوط فيهما بسلام.. درس هندسة الديكور في واشنطن حيث ولد.. كان وحيد أبويه.. بعد وفاة أمه قرر والده أن يهجر كل أمريكا لأنها دوًما تذكره بزوجته.. أراد أن يموت في أرض السلام! فسأل ديفيد أن يصطحبه.. وافق ديفيد على أن يأتي إلى فلسطين.. استقر ووالده في بتاح تكفا، ولم يغادرها عائداً إلى أمريكا بعد أن مات والده هو الآخر.. تعرف ديفيد على زوجته سافيون، وتزوجها، لكنها لم تعش طويلاً بسبب مرضها.
من خلال حديثه فهمت أنه يريدني بشدة، ويفكر في ليل نهار. وحتى لا يموت جسده من الوحدة كان يريد أن ينقذه بي، بعد أن مل الساقطات من كل الجنسيات، واللاتي تزخر بهن إسرائيل.. كما أنه يريد تجربة شيء جديد!
واجهته بالرفض القاطع، ولكنه لم ييأس، ونزل على ركبتيه أمامي وسأل:
- ألأنني يهودي؟
- ليس للأمر شأن بكونك يهوديّاً أو غيره.. ولكني فقط لا أستطيع..
- لماذا؟ هل أنت مرتبط؟
- كيف أكون مرتبطاً، وحالتي أنت تعرفها بالتفصيل؟
- أولست على علاقة بجهاد؟
- لا.. إذن فلأنني يهودي؛ أنا أعلم بأنكم تكرهونا، ولكني من جماعة السلام.. وأنت تعلم........
حاول ديفيد تقبيلي بقوة فأزحته عن طريقي، مهدداً إياه بإبلاغ رافاييل، بينما كانت أنفاسه الحارة تشعل وجهي..
ابتعد عني لاهثاً وقال: أوكي.. دعني فقط ألمس صدرك؛ فهو يثيرني جدّاً.
- ديفيد: أريد أن أنام..
- من فضلك يا نداء: لا تكسر قلبي.. لا تنس تقاريري الممتازة التي أكتبها عنك..
- لا تكتب تقارير ممتازة بعد اليوم؛ إن كنت لا أستحقها..
- هل تريدني أن أكون أبله، وأصدق أنك لا تعاشر جهاداً؟!
- ديفيد: أرجوك؛ أريد أن أنام، فلدي عمل كثير غداً..
- كيف تطيق أن تحيا بلا حياة....؟
وفجأة وسط دموعي التي لم أستطع أن أمسكها وجدتني أقول:
ومن قال لك يا ديفيد إني حي؟ إنني كل يوم أموت ألف مرة، أموت من أمثالك، من شكلي من نظرات الاستهجان لدى رؤيتي، من حيرتي فيمن أكون.. من فقري، من ضعفي وقلة حيلتي، من غربتي وعزلتي التي أتعمدها حتى لا أختلط بأحد.. عدم فهمي لحكمة ربي في خلقي هكذا، أموت من كل شيء وأي شيء!
رأيت الهلع والدهشة تحط فوق ملامحه، وكأنه استيقظ من غيبوبة ليرى من حوله.. وفجأة قام وأوقفني مقابله، ورفع عيني أمام وجهه، ولف ذراعيه القويتين حولي، ضمني برفق، شعرت بأصابعه الدافئة تلمس جلدة رأسي، وتمتم: أنا آسف يا نداء، اعذرني من فضلك.
الغريب في الأمر أنني استكنت لحضنه الصادق، وللحظات شعرت باستكانة الأنثى داخلي، وحاجتها لدفء تنثره في أجوائها، تغذي فيه روحها الظمأى من سنين وسنين..
لم يستغل ديفيد لحظات ضعفي على الرغم من وضوح تقبل جسدي لحضنه الدافئ، ولكنه قبلني قبلة من شفتيه الرطبتين والمتحفزتين للاستسلام لشفتين أخريين فوق جبيني وقال: اعتبرني صديقا لك.. أنا آسف.. وانسحب بهدوء..
لم يغمض لي جفن وأنا أستشعر اللحظات الدافئة التي غبت فيها بين أحضان ديفيد، وكيف غدا جسدي قطعة من نار، وأنا لا أدري تحديداً أيهما فيّ الذي استثير: هل هي الأنثى أم هو الرجل؟!
غزا نور الفجر مساحة كبيرة من غرفتي، وحين عاد جهاد من نوبته الليلية تعجب من أنني لا أزال فوق السرير، وآثار البكاء واضحة على وجهي.
- نداء شو صار؟ انت تعبان ؟
حاولت أن أخفي ما حدث فقلت له: قول صباح الخير بالأول.
- ما هادي أول مرة أشوفك بعد مناوبتي الليلية، شو القصة تعبان، ولا شيء؟
ولست أدري أيضاً لم قصصت عليه ما دار بيني وبين ديفيد..
رفع حاجبيه متعجباً وقال: بالله عليك هادا اللي صار؟
- إنت تعرف إني ما بكذب؟
- والله لأنزل أكسر لك راسه هادا الشاذ..
- اسكت يا جهاد؛ ليش إنت دايماً عصبي هيك.. خلص.. ما في مشكله، والرجل احترم رفضي..
- غريبة يا أخي ليش الشذوذ منتشر كتير هالأيام؟ يقطعهم قول آمين!! بس أنا مش عارف شو بيعجبهم فيك؟ أوكي وجهك حلو، بس يا أخي ما فيك لحم.. وكتير ضعيف، وحتى صدرك إذا كانوا بيهتموا بالصدر كمشة يد.. يخرب بيتهم شو بهايم! والله لو إنت آخر واحد في الكون ما باجي جنبك.
نظرت إليه وتمليت وجهه الوسيم، وحزنت على نفسي وتساءلت: كأني خرافة تصحو وتقوم.. من أكون؟
لاحظ جهاد حزني فقال: يا أخي أنا بموت في النسوان وبس.. أوعك تزعل مني.. إنت عارف أنا أديش بحبك.. ولو عاوزني إنزل أكسرلك راس ديفيد الآن بنزل.. وبعدين بدناش هالشغل.. بنروح نشتغل في مكان تاني.
وفجأة فرقع ضحكة عالية وقال: هههههههه.. الله يخرب بيتك يا ديفيد.. دا النسوان في إسرائيل ما فيش أجمل منهم.. ولا اكتر منهم..
- وإيش اللي عرفك يا سيدي..
- بعدين بقولك بدي أنام هالحين..
قبل أن أنزل للعمل تندر جهاد كثيراً على ديفيد.. تركته لينام وخرجت.. عندما قابلت ديفيد كنت أظن بأن رفضي له سيغير من طريقة معاملته لي، ولكنه همس: أنت الآن في العمل؛ عليك بنسيان كل ما دار بيننا
الفصل السادس: لا تحزن بنـي؛ فالحزن نحلة تمتص رحيق الشباب..
لم أصدق أن كل هؤلاء الناس أتوا في عزاء أمي وهم يذكرون طيبها وحسن جوارها.. بكتها صديقاتها جمانة وراشيل وعبلة بكاء يفطر القلب.. زملائي في العمل لم ينقطع اتصالهم للاطمئنان عل حالي: محمد المصري وزيدان السوري وطوني اللبناني؛ وحتى ديفيد والمعلم رفاييل. أما جهاد صديقي فقد (استرخص) ليكون معي طوال فترة العزاء؛حتى إنه نام عندي بعد توصية من سحر أختي وزوجها بأن يبقى معي، وقد اطمأنا لوجوده بجانبي.. قبل أن يغادرني بعد انقضاء أسبوع على العزاء سألني:
هل ستعود للعمل أم ماذا ستفعل؟
قلت له: اعتذر نيابة عني لديفيد ورفاييل؛ لأن أختي سحر مصرة على ألا أعمل، وأن أكمل تعليمي..
فرح جداً وقال: تمام وربنا ينفخ في صورتي أنا كمان وأكمل الزفت التعليم.
بعد أن عاد جهاد إلى بتاح تكفا رفضت بشدة وإصرار طلب سحر وزوجها بأن أبيت في بيتهما..
آه يا أمي، يا سيدة الألوان البهية.. يا نغماً ارتعش عبر روحي، وقنديلاً أضاء جوانب نفسي المحطمة.. كيف سأقاوم شوقي إليك بعد الآن وقد أصبحت بعيدة كنجمة بازغة في سماء مفقودة وأرض مراوغة؟
أتساءل: لِمَ لم يمهلها الله يوماً واحداً حتى أراها؟ أسلمت أمي روحها وهي جالسة تحضر لطعامي الذي أحب: فطائر معجونة بروحها وأنفاسها العطرة.. آه يا حبيبتي! يأبى الدهر إلا أن يقهرني ويذلني..
بعد مغادرة جهاد، وقد انفض الجميع، وخلا البيت علي وحدي أخذت أستمع إلى رجع موسيقى صوت أمي الحنون الذي كان.. وأتعلق بقسمات وجه أمي النقي، عبر صورة رسمتها لنفسها.. ما كان أجملك يا أمي!
أخذت أدور في البيت الذي شهد أيامي الأولى، وفي كل ركن من أركانه تحيا ذكريات وذكريات.. تلمست خزانة أمي وفتحتها، شممت عبير عطر أمي الخاص الذي كان خليطاً من كل الزهور.. أحسست برأسي يدور ويدور، وفاضت عيناي ببحر من الدموع.. اسودت الدنيا أمامي، وتذكرت كلمات جبران خليل جبران: أمرُّ ما في أحزان يومنا ذكرى أفراح أمسنا!
لم أقوّ على الصمود.. وكانت تلك أول مرة أصل فيها لأعلى درجة من درجات القرار الذي اختمر في خلاياي.. فابتلعت 100 حبة من البنادول، ونمت كوردة في عروة فستان أمي لعلي ألحق بها.
أفقت على دمعة ملتهبة سقطت فوق وجهي من بين جفون أختي سحر، وسمعت صوتها ما بين اليقظة والنوم يردد: لماذا يا نداء؟ أتريد أن تفجعني فيك وأنت الباقي لي؟
دفء يدها الناعمة تدفق إلى جسدي حارّاً لأفيق باكياً، ولتختلط دموعي ودموعها فرحة بعودتي إلى الحياة..
كان جهاد قد اتصل بسحر دون علمي، وقال لها بأنه سوف يغادر، وإن عليها أن تحضر حتى تبقى معي.. كانت الساعة الثانية عشرة عندما غادرني جهاد.. اتصلت بي سحر لتطمئن علي.. رن جرس التليفون كثيراً بدون رد، أيقظت زوجها واتجها سريعاً إلى منزلنا، كسرا الباب بمساعدة الجيران، ونقلوني إلى المستشفى حيث غسيل المعدة وأسئلة كثيرة لئلا تكون هناك شبهه جنائية؟
حتى الموت لا يأتي لمن يريده سهلاً!.. أفٍ لتلك الحياة..
حاولت أن أقنع سحر أن تسكن في بيتنا بعد أن تجدده على مزاجها، عدا غرفة أمي التي ستبقي كما هي، والتي سأقيم فيها وقت إجازتي، رفضت في البداية نظراً لبعد منزلنا عن مكان عملها كمترجمة ومحاضرة في جامعة بير زيت، وبعد أن ألححت وألححت، وافقت وزوجها على أن يسكناه.. شرط أن تغطي وزوجها كافة مصاريفي الجامعية.. وقالت لي: سأبقى دوماً أنتظر عودتك، وعندما يحين لك الاستقرار ستجد البيت في انتظارك، وسنعود نحن إلى منزلنا في القدس..
اتفق زوجها مع صديقه أيمن في عمان بأن يؤجرني حجرة مفروشة في فيلته الكبيرة. كما أنها اختارت لي كلية أمريكية متخصصة في دراسة الكمبيوتر.. التخصص الذي كنت أحلم به، ويتوافق مع تكويني النفسي والعقلي... وهو المستقبل.. هو العلم المجرد بلا عواطف.. هو البوابة المطلة على العلم والعالم.. على الإنترنت.. هو الفن والإبداع.. ومن خلاله تستطيع أن تكون كيفما تشاء بنتاً.. ولداً.. رجلاً.. امرأة.. كن ما شئت ولا تخش الملام!
قلــب العـلم بيتٌ فيه مصباح.. لا يضيق مــن تظاهر النور فيه، بل يتسع للنظر والتأمل , ويزيدك ضياء.. "كسرى أنوشروان"
نظراً للعبء الجديد الذي أضفته على أعباء أختي سحر المالية قررت أن أدفع فقط للأقساط الرئيسية.. ولم أهتم بشراء الكتب لارتفاع أسعارها؛ معتمداً على ذاكرتي وشبكة الإنترنت.
انتظمت في الكلية بادئاً مرحلة جديدة، وأنا أكثر نضجاً وتوحداً، حيث تؤلمني وتقلقني البدايات والتجمعات الجديدة..
وسط إعجاب كبير، واستهجان طلابي ذكوري قليل، وقرف وغيرة أنثوية، مضت أيامي في الكلية، لا أعرف سوى الدراسة.. لم أصاحب أحداً أو أثق في أحد.. لم أرتبط اجتماعياً إلا بأستاذ البرمجيات الذي كنت كثيراً ما أقضي معه الوقت في نقاشات حامية في كل شيء وأي شيء؛ خاصة وأنه قارئ نهم في شتى المجالات؛ ما حببني فيه وجعلني آنس إليه دون خوف..
ذات يوم وبعد انتهاء محاضرته أسر في أذني بأنه يريدني أن أفطر معه في غرفته الخاصة بمبنى الكلية، بعيداً عن ضوضاء الكافتريا..
مشينا وكالعادة وسط نظرات مرتابة من الطلاب وبعض الأساتذة حتى وصلنا إلى غرفته الخاصة..
أخرج من مكتبه كيساً من البلاستيك ذكي الرائحة وقال:
- الوالدة عملت لك شوية مناقيش زعتر وفطائر سبانخ وجبنة، وأصرت أن تفطر معي، وتأخذ الباقي كله معك..
- ولماذا كل هذا التعب يا أستاذ فارس.. اشكرها وقبل لي يدها..
مع الرائحة التي عادت بي إلى حضن أمي رحمها الله انتابتني غصة فغامت عيناي بالدموع..
- ما لك يا نداء؟ هل ضايقك أحد؟
- لا بل تذكرت فطائر أمي..
- رحمها الله..
سكت أستاذي فارس قليلاً ثم قال: نويت تكون الأول هذا العام أيضاً؟
- هذا كل همي..
- برافو نداء؛ رغم كل ظروفك التي حدثتني عنها فإنك بالفعل أجدع من مائة رجل.. آسف ولو أني اعتبرك بمقاييس الرجال أحسن بكثير من أشباه الرجال، كما أنك في جمالك وتفصيل جسدك أجمل من نساء كثيرات، أما إذا اعتمدنا الجوهر فلن نجد مثلك الكثيرين وأنا أطبق عليك قول ديوي: ليست الأمانة والشجاعة والدأب وحسن الخلق ممتلكات خاصة للفرد، ولكنها تكييف للقدرات الشخصية مع القوى المحيطة.. ومن خلال معرفتي بك أجدك قد ربيت نفسك، وكيفتها، وأدبتها لتقبل قبح ما حولك.. والله إني فخور بك..
- أشكرك يا أستاذ؛ هذا كله بفضل تشجيعك..
مد الأستاذ فارس يده بفطيرة وقال: يلا.. وين نفسك المفتوحة.. بدي اياك تاكل كل الفطاير..
- أشكرك أستاذ..
- أنت تستاهل يا نداء.. هل تعلم أنك أكثر من واحد على الصعيد النفسي..
- كيف؟
- انت - بحكم حالتك - تحتاج إلى قدر كبير من الجدل لإقناع الناس بحالتك وفهمها، ومن كثرة تعرضك للأسئلة - حتى الصامتة منها - ونظراً للتناقضات التي تحملها في بنائك الشخصي، فإنك أصبحت شخصاً انطوائيّاً أكثر منك انبساطيّاً.. فلا تريد أن تتكيف بسرعة مع المواقف الجديدة، وليس لديك ثقة في نفسك؛ على الرغم من نبوغك واطلاعك على ثقافات عدة، تنقد ذاتك بشدة، وتستفسر عنها كثيراً، ولا تبتعد عما يؤلم نفسك، وهذا في حد ذاته شيء يكسر الروح.
- حسب ما يقول علم النفس يا أستاذ فارس فإن لكل منا شيئاً يحيا من أجله، يصبح مع الأيام هدفاً تتحدد به كل سلوكياتنا ومن كل النواحي، ونتوجه لتحقيقه حتى ينعكس تحقيقه على ذواتنا، فيضفي على حياتنا المعنى، ويزيدنا تعلقاً بها، وحبّاً لها، وسعياً للمزيد منها.. ولكني أشعر بالحيرة والتخوف من البشر؛ نتيجة تراكم المواقف المشينة من شخصيات شاذة تعرضت لي بالسوء، وحطمت في أشياء وأشياء. وعلى الرغم من انغماسي في التعلم والقراءة، أفتقد الصحبة الصادقة التي تتعامل مع جوهري دون شكلي..
كذلك أدرك أن لكل إنسان عدة أهداف يسعي لتحقيقها.. ولكن ما حيلتي؟ فلا البنت تقبل بي، ولا الرجل أيضاً!
أنا أبدو كلعبة غريبة يمكن أن تجرب جنسيّاً مرة أو ربما مرات، ثم ترمى بعيداً..
- لا أريد منك كل هذا التشاؤم؛ فما يزال في الدنيا أخيار كثيرون، ولكن الذي أريده منك هو عدم المبالاة بالنظرات والكلمات المستهجنة والأسئلة الغبية..
- يا أستاذ فارس: أنت تتحدث وكأنك لا تعرفني.. إنني لا أشتاق للصحبة.. بل أشتاق للمسة من صديق حقيقي، لا يخشي كلام الناس، أو أن أحسب عليه..
- هل تعلم أن زميلاتي البنات اللواتي أحسب عليهن أكثر من البنين يستغللنني فقط عندما يحتجن إلى شرح شيء غمض فهمه عليهن، ثم يبتعدن وكأني غير موجود؟! إنهن يخشين على أنفسهن، كما يغرن مني! وأنا ألحظ تلك الغيرة في ابتعادهن وإبعاد أصدقائهن الشباب عني، إن تكوين علاقة بلا أهداف لهو أمر شائك مع حالتي يا أستاذ.. ثم هل نسيت ما حدث السنة الماضية عندما كان أحمد رضوان هو الوحيد الذي يكلمني،
ويقف معي، حتى اتهمه الشباب بأنه يعاشرني.. وعندما سمع هذا الكلام توقف حتى عن إلقاء تحية الصباح؟! على كل أنا راضٍ بنصيبي وقدري ووحدتي..
- أنا لا أؤمن بالهزيمة يا نداء.. يجب أن نغير المجتمع حولنا.. فلست وحدك الذى يعامل بهذا الشكل فحتى ذوو الاحتياجات الخاصة لا نعرف كيف نعامل معهم ونستهجن وجودهم ونعتبرهم عقابا من الله لذويهم لذا نحارب لنتعلم كيف نتعامل مع كل الحالات المختلفة دون أن يحرجها المجتمع ويساهم في تعذيبها..
- إسمح لي أستاذ فارس أن أقول إننا نحن العرب تحديداً ليس لدينا ثقافة استيعاب الآخر، وتقبل اختلافه كما هو..
- تلك هي مهمتنا يا نداء: أن نجعل الآخرين يستوعبون اختلافاتنا وعيوبنا الخلقية التى لا دخل لنا فيها ..
- أنا شخصيّاً متشائم، وأتمني لو أن الله يتيح لي فرصة الخروج من بلادنا، والذهاب إلى بلاد تحترم حريتي، وتقيمني على أساس عملي، لا على شكلي.
- ولماذا لا تقدم على الهجرة؟
- أنا أحاول أن أجمع المبلغ اللازم للهجرة أولاً، حتى أجري عملية التغيير هناك بمساعدة جمعيات جندر بندر، المختصة بهذا الخلل الجيني..
- وهل بالفعل تنوي أن تفعلها؟
- وهل لي سوى أن أفعلها حتى أعيش حياة واحدة؟
- طبعا ستغير اختيارك الآن؛ خاصة وأنا أرى الأنثى تطل بوضوح من عينيك.
- سأعدل الوضع الذي أخطأت فيه منذ البداية، وسأكون الأنثى التي يريدها كل الرجال.
- والله ستكون أحلى من ألف واحدة.. بس اوعى لما تعملها ما أشوفِك..
- أول واحد سأفكر في زيارته بعد العملية في عالمنا هذا هو أنت..
- يعني أستطيع أن أقول إنك معجب بي..
- أنت الرجل الذي تحلم به كل أنثى يا أستاذ..
احمر وجه الأستاذ فارس، ووقف طويلاً مباهياً بجسده الفارع، ومد يده إلى قال: أتمني لك التوفيق، فلا تقطعني، وأطلعني على أخبارك دائماً، وحاول أن تعمل أثناء فراغك..
- نسيت أن أقول لك أستاذي إنني استطعت أن أحصل على وظيفة محرر لمعالجة المشكلات الاجتماعية في جريدة محلية، وقد فتح ذاك أمامي مجالاً واسعاً في معرفة الطبائع البشرية عن بعد، كما أن بعض القراء الآن يخاطبني عبر الإيميل الخاص بي، ممن يتعامل مع الكومبيوتر، والآخرون يبعثون برسائلهم على الجريدة.
- برافو والله يا نداء، المفروض أن يعتمد شبابنا على نفسه، ويعمل أي عمل يوفر له العيش الكريم دون أن يضغط على أهله..
أما من ناحيتي فإذا احتجتني في أي شيء ستجدني..
أعطاني الأستاذ فارس ما تبقى من الفطائر وقال لي: تعال بكره نفطر سوا وندردش..
الحظ ملكة تسأم المقام دوماً بقرب الأشخاص أنفسهم "يوربييدس"
الكل يسأل ويستفسر عن العريس والعروس، والمال والحب، والصحة وفرص الكسب السريع..
أدهشتني الرسائل التي كانت تأتي من كل صوب وحدب لمحرر صفحة (مشاكل)، الذي لا يعرفون هل هو رجل أم امرأة! وقد أعجبتني فكرة أن بعضاً منهم ومنهن يحلل شخصيتي من خلال اسمي..
وقد اكتشفت من خلال هذا الباب أن النساء هن من يربطن القيود في معاصمهن، لا فرق في ذلك بين العاملات وغير العاملات، والمتعلمات وغيرهن، ممن ينصب جل انتباههن على إيجاد رجل، متصورات أنه الاختيار الأسلم والأسهل.. اكتشفت أننا شعوب تؤمن بالحظ وضرباته؛ مفرحة كانت أم محزنة..
ذات يوم استدعاني مدير التحرير وقال:
- ما رأيك أن تشارك زميلك حساناً في إعداد صفحة المنوعات؟
- علي راسي سيدنا..
- أعلم أنك ستنجح بإمداد الجريدة بأخبار نادرة؛ خاصة أنك تعمل على النت بامتياز..
وكالعادة نجحت، واكتشفت أن لي موهبة لم أكن أعلم بوجودها: كيفية التعامل - عن بعد - مع كلا الطرفين - النساء والرجال - والكل يمدني بأطرف الأخبار وأندرها..
استعنت بالشبكة العنكبوتية لإرسال أخبار لا تخطر على بال، وكنت أدرك ما يريده الشباب، وما تريده الفتيات والرجال البالغون والنساء، مع المزج بينهما؛ ليخرج الخبر وعنوانه، بالإضافة إلى مجموعة من الصور الفريدة التي تدعم الخبر وتلفت نظر القارئ وتأسره!
اكتسبت أصوات النساء في مبنى الجريدة، وأعجبن بعملي واسمي المستعار "بدائع" الذي كان يؤكد ثلثي الأنثى بداخلي..
لكن.. يا فرحة ما تمت: استقال مدير الجريدة وحل محله أحد أقرباء صاحبها.. والبقاء دائماً في عالمنا للأقرب!
وكما يحدث في السلطة يحدث في الإدارات كلها؛ فعندما تتغير الإدارة تجيء الجديدة بكوادرها الموالية لها, لتهدم كل ما بنى سابقا , حتى لو كان ايجابيا لتبدأ من جديد وصلة تفتيش عن سقطات النظام القديم , لتقع فريسة عدم التطور والنمو !
أعفاني المدير الجديد من مهامي بعد أن قال:
- اذهب يا بني الله يستر عليك..
وهكذا - وقبل انتهائي من دراستي في تصميم المواقع بثلاثة أشهر - خسرت عملي في الجريدة، وبدأت رحلة البحث عن عمل آخر.
كن ينبوعاً, يروي الغليل ولا ُيُشكر "ل. دي. غاراغازون"
أختي سحر ينبوع محبة لا ينضب..
عندما علمت بتوقفي عن العمل تحدثت مع صديقة لها اسمها "شذا" تسكن عمان، وتمتلك محلاً لبيع أدوات التجميل في أجمل منطقة فيها "عبدون" سألتها بأن أدير لها المحل فترة بعد الظهر؛ لأنها تعلم بانشغالها بطفلها الجديد.. وافقت شذا، خاصة وأنها تثق في أختي المنحدرة من بيت طيب كما كانت تقول لها.
حدثتني سحر في الأمر فوافقت بسرعة لأنه استهواني؛ خاصة وأنني أميل للتعامل مع المرأة أكثر من الرجل، بحكم ميلي الطبيعي..
وهكذا تسلمت عرشاً أنثويّاً خالصاً، ودخلت عالم حواء الحقيقي..
استطعت كسبهن واستغللت حالتي، فكانت النساء والفتيات من مختلف الاتجاهات يأتين للمحل للتعامل معي والتحدث بالساعات والساعات عن كل شيء وأي شيء، المسنة والصغيرة.. الجميلة والقبيحة.. الثرية والفقيرة.. المحترمة وغير المحترمة. وكان منهن كثيرات من الفنانات اللواتي كنت أشاهدهن في التلفاز، واللواتي أعجبن بطريقتي في جذبهن..
الخطيئة الأولى توسد سرير الثانية"مثل تشيكي"
الساقطات وما أدراك ما الساقطات!
كم أعجب من تلك التسمية، في مجتمعات يموج في أحشائها السقوط!
بائعات الهوى.. ساقطات الأمة، ومن خلفهن رجال أعمال، ومستثمرون، وسوقة وكل أشكال من يطلق عليهم اسم رجال..
عن قرب تحادثت معهن.. حاورتهن.. دخلت على استحياء عالمهن!
لديهن أحاسيسهن الخاصة.. لهن فلسفتهن ووعيهن بما يفعلن.. هن راضيات مجبرات في الوقت ذاته على حياة رسمت من أجلهن بنصل سكين؛ إن حدن عنها نزفن حتى الموت، ودون أن يمسح جراحهن أحد!
يؤمن بأن الله أنعم عليهن بالعذاب بلسماً قدسيّاً لدناساتهن.. يبكين أعمارهن الربيعية التي يزحف إليها الخريف بلا رحمة.. الكون كله غير مبال بآلامهن.. لا وقت للأشواق في دقائق حياتهن.. هن مداس لكل ساقط ولاقط من الرجال الذين يستغلون حاجتهن للحياة، في عالم يحركه أنصاف الرجال وأشباههم.. لا أحد يصغي لشكواهن الصامتة من عابري أسرتهن الكثر، وللقسوة ألف وجه ووجه في حياتهن!
هن جزء كبير في مجتمعاتنا التي تدعي الطهر والنقاء، وهن في أعرافنا سافلات ساقطات!
بائعات الهوى هن! تدربن على بيعه في مدرسة الحياة القبيحة.. قرأن أبجدياته من الفقر وقسوة الأهل , والمجتمع الذي لا يجد لهن حلولاً تقيهن شر الحاجة لبيع أغلى ما يملكن!
هن حالة من صنع أيدينا!
كانت لي علاقة وطيدة مع اثنتين منهن؛ بحكم أنهن زبونات للمحل.. كانتا تعملان بفندق قرب المتجر.. كشفت لهن أسراري وقصصت حكايتي المُرة.. وكشفتا لي أسرارهما! أطلعتاني على أسمائهن الحقيقية.. أبداً لم تحرجاني بأسئلة لا تنتهي، بل أحبتاني كما أنا..
قالت لي هويدا وهي تضحك : تُؤْبر ألبي نداء.. انت كتير جميل.. لو تشتغل معنا والله تكسب أكثر منا..
ردت آمال عليها: يا اختي بلا نيله! عاجبك اللي احنا فيه ده؟ كل يوم مع واحد شكل، إيشي مدهول، وإيشي حزين، وإيشي متنيل على عينه، وإيشي يحاسبك على المليم والدقيقة! أوعى تسمع كلامها يا واد يا نداء.. خليك زي ما انت؛ طاهر ونضيف.
- ليش انتي بدك اياه يضل يشتغل بتراب المصاري، وما يقدر يعمل العمليه؟
- ليه يا اختي؟ ما هو زي القمر اهه، ويقدر يستغل شكله، ويضحك على رجال كتير، ومن غير ما حد يلمسه..
- كيف يا عيوني ؟
- ههههههه يلبس لبس ستات، وشوية مكياج على شخلعه، يفتكروه بنت، ويقبض مقدم، ولما يجييي وقت الجد انا متأكده ان تلات اربعهم حيهرب، ويسيب الفلوس وراه..
ضحكت كثيراً على نقاشهما، وشكرتهما قائلاً: لا تحملا همّاً؛ سأكون بخير إن شاء الله..
أصرتا على اصطحابي للعشاء في منزلهما بعد أن تنتهي آمال من نمرتها التي تؤديها في ملهي الأوتيل.. وعدتهما بالزيارة لأعطي لآمال بعض ما طلبته من "ميك آب" لم يكن موجوداً في المحل وقتها، حيث سأتيها به من المخزن.
أخذت العنوان، ووعدتهما أن أكون عندهما فور إغلاقي المحل.
ردت هويدا: أنا هلأ رايحه على البيت هانتظرك حتى تنتهي آمال، وتلحق بنا لأني سأنتظر ضيفاً على العشاء أيضاً.
أول ارتعاشة إيروسية...
بعد انتهائي من العمل أغلقت المحل، وقررت الذهاب إليهما حيث تقيمان في شقة في عمارة من طابقين أعلى جبل عمان..
كانت العمارة ملكاً لطبيب يعمل بإحدى دول الخليج.. احتلت هويدا وآمال الدور الثاني منها، أما الدور الأرضي فكان مغلقاً لا يسكنه أحد في انتظار طال لصاحبه الذي كان يأتي كل عام مدة لا تزيد على الأسبوعين.. ويحصل من آمال وهويدا إيجار أشهر الصيف، أما بقية أشهر السنة فقد كانتا ترسلانه مناصفة في حساب جارٍ باسم الدكتور الذي كان مرتاحاً لسكناهما؛ بعد أن أوضحتا له أنهما تعملان مضيفتين في فندق كبير، فأبدى سعادته لأنهما بمفردهما، ولن يكون هناك سوء استعمال للمكان!
وصلت إلى المكان بسهولة.. صعدت إلى الدور الثاني.. كان الظلام مخيماً فلم أستطع أن أعرف مكان الجرس، وبعد أن تعودت عيناي على الظلمة تحسست المكان حتى تعثرت يدي بالجرس فتعالى صوته خلف الباب.. سمعت صوت هويدا تقول:
أوكي أوكي.. هايني جايي..
غمر الضوء السلم، وعندما فتح الباب أخذتني بالأحضان، لأجد نفسي في صالة مبهجة واسعة مرتبة نظيفة، تلهو فيها الألوان الزاهية ذات الأثاث العصري البسيط.
كانت هويدا رائعة جميلة، ينساب قميص نومها الأحمر الدموي الشفاف على جسد لا يوجد به أي خطأ.. كانت تلك أول مرة أراها بهذا الشكل المثير، ولأول مرة أُصاب بارتعاشة إيروسية وأنا منذهل من حسنها..
أخذتني من يدي لغرفة نومها حتى تريني إياها!
كانت الغرفة قد كسيت جدرانها بورق حائط بدرجاته من الأحمر البركاني حتى آخر درجاته الباردة الوردية.. وقالت: كل هيدا من حبيب ألبي "أنطون".
- أنطون فقط أم هناك غيره؟
- أنا هلأ مع أنطون وبس.. وهو حبيبي ليفرجها الله..
- ما راح تتزوجوا!؟
فرقعت ضحكة مبهجة كزقزقة العصافير وقالت:
- ما بأدر على واحد وبس، أنا بحب التغيير، وبعدين ما انت شايف مشاكل المتزوجين، وكل اللي بييجوا عنا أكثرهم متزوجين.. حبيبي شو الفايده من الزواج في عالمنا إلا الغش والخداع؟!
- الزواج ضرورة إنسانية واجتماعية.. ويحافظ على نقاء الأنساب والعروق.
- خيي اتركك من هيدا الحديث.. شو تشرب قبل العشا.
- شكرا لا شي الآن.. وخلينا نستني لما الست "آمال" تيجي..
- آمال بدها تيجي متأخره شوي، وأنا هلأ بده يمر علي أنطون.. أنت بدك تتصرف بالبيت كأنه إلك، وفي الصالة شرايط فيديو كتيرة.. كلها أفلام ومسرحيات بتعأّد.. وكمان فيه أفلام ثآفيِّه إذا بدك تشوفا..
رن جرس الباب بشدة، دخل رجل في العقد الرابع شديد استدارة الوجه، حدقتا عينيه شديدتا السواد، مع حاجبين بهيين، وفم صغير يغفو فوق شفته العليا شارب منمق استكان بترتيب، طويل أنيق في ملبسه..
عندما رآني سأل هويدا: من هيدي الحلوه؟!
- هيدا نداء صديئنا..
قبل أن أمد له يدي بالسلام قلت: أهلاً بك سيد أنطون..
- دخيل اللي خلأك حبيبي على ها الخلأه شو حلوه، وها الصوت الخشن! إنتي بنت مسترجلة ولا شو بالزبط..
- لا هادا ولا هاد.. أنا هيك وهيك..
- هويدا صرعتيني , شو هيدا..
أخذته من يده على غرفتها وقالت: نداء: انبسط وشوف الأشرطة.. وإذا جعت الأكل في البراد.. كل اللي بدك اياه..
اختفت هويدا وأنطون لساعة داخل غرفة نومها، وقضيت الوقت في مشاهدة مدرسة المشاغبين، في انتظار عودة آمال لأسلمها الأشياء التي طلبتها، بكيت من شدة الضحك على المسرحية، وكأني بضحكي الباكي تذكرت نفسي فبكيت ضاحكاً على حالي مدركاً أن ارتعاشة الرجل فيّ لم تهمد، كما أن شوق الأنثى لرجل طغى على إحساسي بالوحدة والصمت..
وأنا على تلك الحال خرج أنطون من الغرفة بسرواله الداخلي، متجهاً نحو المطبخ لإحضار ماء، وفي طريق عودته وقع نظره علي وقد لاحظ احمرار عيني وآثار البكاء. نادى هويدا: حبيبتي: صاحبك عم يبكي، تعي لهون شوفي شو ماله..
جاءت هويدا سريعاً، وكانت منكوشة الشعر محاولة تهذيبه بيدها، وقد لمع بياض نهديها كالبرق، من خلال قميصها الممزق، وهي تحاول لملمته. احتضنت رأسي وأخفته في صدرها النافر العامر، قائلة: ما بدي أشوف دموعك أبداً.
وقال أنطون: خليكي معه يا هويدا.. أنا فايت آخد دوش وبرجعلكم.
- أنا آسف سيد أنطون.. خدوا راحتكم.. أنا سأغادر الحين..
- علي الطلاء ما انت رايح مكان.. إلا لما تتعشي معنا..
مسحت هويدا وجهي وقبلتني قبلة حانية، شعرت للحظات وكأنها من أمي.. قالت: خليك حبيبي هون.. بيكفي بكا.. إن شالله بتنحل. برجعلك بعد دّآيئ.
دخلت الحمام وأغلقت الباب خلفها، سمعت صوت المياه تنساب فوق جسديهما، وصوت تأوهاتهما التي كانت هادئة في البداية ثم ما لبثت أن تسارعت، وعلت نبرتها حتى سكتا فجأة، وعادت المياه لتنساب مرة أخرى..
تخيلت جسد هويدا الندي الأملس، وحلمتي صدرها اللتين شعرت بهما عندما احتضنتي، كبرعمي زهريتين غافيتين تفتحتا على يد أنطون..
خرج أنطون في البداية وهو عار تماماً، وعندما رآني غمز لي بعينيه، ودلف إلى الغرفة، بعده خرجت هويدا أيضاً عارية، وقد كشفت عن جسد كجسد آلهة الجمال الإغريقي.
عاد أنطون من الغرفة مرتدياً ملابسه كاملة، وقد زهت علامات الارتواء جلية فوق وجهه الوسيم وقال: أوعك تزعل حالك.. أنت أشرف بكثير من الأوساخ المعبيين عالمنا الآن.. وأحسن من أولاد الكلب اللي بيستعملوهم.. حالتك حبيبي ابتلاء من عند الله وان شالله بتشفى!
وقبل أن تحضر هويدا مد يده وأخرج رزمة من الدولارات وقال: هيدي هديه مش من قيمتك يا نداء..
بهت، ورفضت رفضاً قاطعاً، حتى جاءت هويدا بحسنها ودلالها، ومالت على مرة أخرى لتطبع قبلة حانية فوق خدي قائلة: أوعك ترفض الهديه، فالسيد أنطون حبك كتير بعد ما حكيت له حكايتك..
تناولنا العشاء ونحن نتحدث عن حالتي، فأبدى أنطون رغبة في مساعدتي في تكاليف العملية.. وعندما استأذن ليغادر التقى بآمال ساعة دخولها البيت فبادرته بالسؤال:
- على فين العزم؟ ما لسه بدري يا أنطون..
- بيكفي.. أنا صارلي زمان هون..
- لأ يا حبيبي قول الكلام ده لهويدا العبيطة.. إنت مش قادر تتأخر على الداخلية لا تنيّل عيشتك..
ضحك أنطون عالياً وقال لها: بوعدك المره الجاية أنام بيناتكن.
كانت الساعة الثانية صباحاً.. وكانت آثار الإجهاد بادية على آمال..
قبلتني وقالت: إزيك يا واد يا نداء؟ وحشتني.. جبت الحاجه معاك..
- طبعا هو أنا اقدر أرفض لك طلب؟!
ضحكت وهي تعلم أنني أقلدها وقالت:
- طيب يا فالح حطهم عندك.. بص النهارده وقعت على زبون سُؤْع.. انهبل لما شافني برقص.. واتفقت معاه، وحييجي بعد شويه اسمه حمد، مش عارفه من أي مصيبه.. لكنه باين عليه خليجي .
قالت هويدا: أنا تعبانه كتير.. وبدي ادخل نام.
- طبعاً يا أختي.. ما هو بيهد حيلك كل ما ييجي، بس ربك والحق راجل طيب، بيدفع اللي عليه وزياده.. يكفي انه مخليكي له بس، وما بتنزليش الصاله بعد وصلتك.. روحي انخمدي يا أختي.. أنا حستنى حمد.. باين عليه محترم وابن ناس.. واياكْش يكون آخر المطاف.. واقدر أشنكله واتجوزه.
- يارب يحقق أمانيك يا ست آمال..
- يخليك يا قمر.. ويصلح حالك.. ويا تبقي زينا يا زيهم..
حاولت أن أستأذن بعد أن سلمتها ما طلبت ولكنها قالت:
- لأ ما فيش مرواح دلوقت.. الراجل جي، يعني اقعد معاه لوحدي!؟ وفرقعت ضحكة لاهية.. إياك تمشي.. أنا حستحمى واطلعلك..
جلست في انتظارها بمفردي بعد أن غادرتنا هويدا لتنام..
خرجت طازجة من الحمام، تفوح رائحة الياسمين من جسدها، وقد ارتدت قميصاً بلون العاج، أظهر كل مفاتنها دون حياء، وبادرتني بالسؤال:
- إلا واد يا نداء منفسكش في راجل؟!
- طيب ما أنا راجل..
- يا واد اطلع من دول.. وفجأة قفزت فوقي، وأمسكت بصدري، وقرصتني قرصة آلمتني قائلة: أمال ده بيعمل إيه هنا..
جذبتني من يدي، وأدخلتني غرفتها التي اختلط فيها الأزرق بالأخضر وقالت:
- دي غرفة العمليات يا واد، تعالى أنا دلوقت حخليك طلقة..
استكانت الأنثى داخلي لها تماماً.. أجلستني أمام التسريحة، ورفعت شعري وأغلقته.. وحاولت أن تنزع شعر حاجبي، وهي تقول:
- حواجبك جميله بس حاخد شوية شعر بسيط منها.. عشان تبقي مترتبة..
- لأ دخيلك ابعدي عن حواجبي.. عشان الناس..
- يلعن أبو الناس المهم إنت عاوز إيه..
بدأت في نزع الشعر غير مبالية بتوسلاتي.. استسلمت للمساتها الدافئة فوق وجهي، فأغمضت عيني حتى قالت: إفتح يا سمسم..
نظرت لنفسي غير مصدق؛ فالكحل فوق عيني، والأحمر الناري على شفتي، ليظهر اتساق وبياض أسناني، وشعري الغجري القصير، وصوت آمال يلعلع وهي تنظر لي:
- يخرب عألك يا نداء. إيه الجمال ده، والله العظيم إنت أجمل واحدة شفتها في حياتي.. دا أنت يا واد أحلي مني..
تركتني منذهلاً أمام المرآة، وفتحت خزانتها، وتناولت فستاناً ورديّاً طويلاً مفتوح الصدر، رصع بشتى ألوان الحجارة اللامعة، وقالت: يلا البس ده.. خلينا النهارده نعمل خدعه لسي حمد.. اللي جاي وسانن سنانه..
ظللت مندهشاً من نفسي، ومن جمال خلقتي، وهمست: رحمك الله يا أبي.. كيف لم تدرك بأنني أنثى؟!
رمت آمال الفستان على السرير.. وجاءتني مستغلة صمتي واندهاشي.. وفكت أزرار قميصي وأنا مستسلم لها تماماً، نفر صدري أمامها فلمسته بيدها الناعمة.. وصرخت وضحكتها تملأ المنزل:
- آل راجل آل.. إِئْلع يا واد البنطلون..
خلعت البنطلون وكأني منوم مغناطيسيّاً.. وتناولت منها الفستان وارتديته..
وقفت مسحورة أمامي وهي تردد: يخرب بيت عألك يا نداء، يا نهار اسود لو حد من المخابيل الرجالة شافك كده.. ليقطعك من جمالك..
تناولت قرطاً ماسيّاً، ووضعته في أذني، وعقدا من اللؤلؤ، نثرته فوق رقبتي الملساء.. قبلتني مرة أخرى، وحضنتني، فاخترقني دفء ونعومة نهدها الذي لامسني بانسجام وهدوء.
الغريب في الأمر أن جسدي كان ساكناً لا يتحرك.. حتى نبضاتي أظنها قد توقفت من الدهشة والصدمة.
ابتعدت قليلاً.. وراحت تدقق النظر إلى.. وتنهدت وقالت:
- ربنا يسامح اللي كان السبب.. دا انت ألف في الميه بنت..
ونحن على تلك الحال رن جرس الباب، قبل أن تتجه لفتحه قالت لي:
- خليك زي ما انت لحد ما أناديلك..
جلست ساكناً أمام المرآة أتعجب من جمالي الفائق، حتى سمعت صوتها يناديني.. خرجت إليها فوجدت برفقتها رجل أسمر تدل ملامحه على الرجولة، عيناه تدوران بعدم ثقة، ولسان حاله يقول: هذا كمين أم ماذا؟
عرفته آمال بي وقالت عني إني صديقتها المفضلة نداء..
- ماشاللا عليها.. وايد حلوه صديقتش..
- شو اسمك؟ حاولت ترقيق صوتي وقلت وأنا أمد له يدي مصافحاً:
- نداء.. بلع ريقه وقال: اليوم سهرتنا صباحي..
- اسمحي لي يا آمال.. سأمشي الآن..
- ما فيش مرواح انتي حتباتي النهارده عندي، وبعدين مش عاوزه تشوفي وصلة الرأص بتاعتي؟!
- هادا هو الشغل العدل.. أبي بدله تريكيواز.. كان يحاول تقليد عادل إمام في شاهد ما شافش حاجه.. وهو يضحك من نفسه..
- من عنيا يا حموتّي.. بس تريكيواز؟! دانت تأمر.. حخليك تغرق النهارده في بحر التريكواز..
اختفت آمال لتغير ملابسها.. وعندما جاء حمد كان يرافقه شخص مستكين تبدو عليه علامات الذلة والمسكنة، حمل زجاجتين من الخمر، وعدة لفات ورقية فاحت منها رائحة البحر والأسماك.. وبعد أن رتب الأشياء على طاولة السفرة انحني باحترام لحمد وقال: سأنتظر أسفل العمارة..
تحرك حمد في المنزل وكأنه يعرفه منذ زمن بعيد، وأحضر الأكواب والثلج من الثلاجة أثناء غياب آمال.. صب لنفسه كأس ويسكي، وصب آخر لي ومد يده:
- خذي يا جميلة اشربي
- آسفة.. لا أشرب سيد حمد..
كان قد عب الكأس الأول جرعة واحدة، وصب الثاني وهو جالس بجانبي وقد رفع حاجبيه تعجباً من رفضي مشاركته الشرب وقال:
كيف تعيشين دون أن تجربي التحليق في سموات النشوة.. تجوبين العالم على صهوة جواد وانت في مكانك لا تبرحينه..
- الله الله.. إنت شاعر سيد حمد!
أطلقت الخمر لسانه، وأعجبه مديحي له فقال:
- ورب الهوى المتألق البشرة، بذراعيه الناعمتين، يحوط قرني باخوس، معانقاً فتتطاير قطرات تلمس الصدور، وتنفذ إلى القلوب وكأنها سهامه..
- هل تعلم من قائل هذه الكلمات سيد حمد؟!
- إش دعوة؟ أنا في مدرسه؟! أنا أحفظ كل الأشعار التي قيلت في الخمر يا ندوه.. بدءاً من الخيام مرورا بأوفيد معلم أصول الهوى وانتهاء بعمنا أبو نواس.
- طيب أكملّك اللي قاله كمان: النبيذ يهب الشجاعة.. ويؤجج في الرجال لواعج العاطفة المشبوبة.. ينتحر الهم غريقاً في بحر من خمر.. ويطل الضحك.. حتى المعدم منا تشرق روحه.. ينبض فرحاً..
التفت إلى حمد.. ومد يده، ووضعها على يدي وهو يقول:
- ما أصدق.. أشوف كل الحريم تافهة وسطحيات.. ما شاالله عليش جومر "قمر" وبعد تقولين الشعر؟!
- أحفظ الشعر فقط ما أقوله.. بس مش كل الحريم متل ما قلت يا سيد حمد..
- علامك والسيد حمد.. أنا حمد يا طاغيه..
فهمت منه أنه رجل عسكري.. ويهوى الشعر بكل أنواعه.. تزوج اثنتين ولكنه غير سعيد بسبب مسؤولياته الكثيرة، ومحاولة كل واحدة منهما تحاول جذبه إليها وإلى أبنائها منه على حساب الأخرى، جاء للالتحاق بدورة عسكرية لم يفصح عن ماهيتها، وحتى يرتاح قليلاً من المشاكل رفض اصطحاب أي واحدة منهن..
خرجت آمال من غرفتها آسرة ساحرة تتوهج كنار في بدلتها التركوازية..
على أنغام موسيقي إنت عمري أبدعت.. واهتز طرباً عمنا حمد، فقام يشاركها رقصها، ويمسك بها في مناطق (ممنوع الاقتراب) منها، وأخذ يرمي عليها نقوداً كثيرة وهي تضحك، وقد اطمأنت إلى أنها سلبت لبه.
عندما كان يشعر بالتعب، ويعجز عن مجاراتها في الحركة يعود ليجلس بجانبي محاولاً الالتصاق بي وهو يهمس:
- عطيني رقم تليفونك؟
- ما عندي تليفون..
- ما عليكي.. أنا بجيبلك واحد..
- هاك رقم تليفوني اتصلي علي..
دس ورقة صغيرة في يدي.. كانت آمال غارقة في وصلتها تغمز لي كلما رأت عينيه تتجولان فوق جسدي وصدري على الأخص.. لأول مرة أشعر بنظرة إعجاب أحادية، فقد كاد حمد أن يلتهمني بعينيه.. أرضت نظراته غرور الأنثى داخلي..
بعد خمس وأربعين دقيقة أنهت آمال وصلتها البديعة، وذهبت لتبديل ثيابها. نظر حمد نحوي نظرة ملتاعة، وهجم على محاولاً تقبيلي من فمي، وهو يلهث ويردد - ورائحة الخمر تفوح من أنفاسه -: إنتي وايد حلوه نداء..تيننين "تجننين"!
أزحته عني وقمت من جانبه..
خرجت آمال بقميص نوم فضي، وكأنها نجمة سقطت من السماء، مفصلاً تقاسيم جسدها العربي الممتلئ بلطف، تفوح منها روائح مبهجة أثارت قابلية حمد لتقبيلها بعنف أمامي.
قالت آمال : تعالي يا نداء.. ساعديني في تحضير الترابيزه عشان نتعشي..
- تفضلو أنتم لأني اتعشيت مع هويدا.
- أوكي إحنا حنتعشي.. وانتي خشي نامي في أودة الضيوف..
قال حمد: أبي أنام الأول وبعدين أتعشي..
قبل أن يدلف إلى غرفة النوم قال: اسمحيلي نداء.. أنا بتأسف. لا تزعليين مني.. أبي أشوفك باشر "باكر" إذا أمكن.. اتصلي علي..
أخرج من جيبه حافظة أثقلت بالنقود.. وفتحها.. وتناول منها أوراقاً مالية كثيرة وقال: هاك اشتري لتش "لك" أي شي.. وترك النقود على الطاولة بجانبي..
أدار ظهره بسرعة.. واختفى في غرفة نوم آمال..
أما هي فقد جاءت لتقول: أيوه يا عم.. عملت شغل الله ينور من غير ما تعمل أي حاجة.. مش قلت لك الرجاله دول مهاويس..
- بس أنا بديش أخدهم..
- ياخد عدوينك يا رب.. هو انت سرقتهم؟ دول جولك من عند ربنا يا مدهول!
- طيب ناوليني ملابسي من عندك..
- أنا حطتهم في أودة الضيوف، نام هنا لحد الصبح.. الوقت اتأخر.. وفاضل ساعات قليلة على الصباح..
- ضروري أروح منشان أغير ملابسي.. واستحم.. وأروح الجامعة..
- شوف يا حبيبي: البيت بيتك.. خش خد حمام، وغير لبسك، وافطر.. وإذا حبيت ترُوح حتلائي اللي ما يتسمى سواق حمد تحت في العربية.. خليه يوصلك مطرح ما انت عايز؛ لأن البيه حيقعد للضهر عندي..
- وإمتى حترتاحي وتنامي..
- آه وألف آه.. هو فيه راحة إلا في الموت يا ألبي.. خليها على الله.. يا عالم إذا كان كمان في الموت راحة ولا لأ.. يا رب سامحني.. إيه يا نداء: هو أنا ناقصاك؟ طيرت النيلة اللي شربتها من نافوخي، روُح يا عمرو يا خالد قبل ما أتوب يا خويا..
- ربنا يتوب عليك من هالشغلانه الزفت.. ويهديكي بصحيح..
- طيب ادعيلي اطبّأ عمك حمد.. وأكون الزوجة نمرة تلاته.. ووحياتك لأمشي على العجين ما الخبطه أبداً بعد كده..
- ياستي ربنا يديكي على قدّ نيتك إنتي وهويدا..
- يلا اسحب يا عين أمك.. وحشوفك في المحل.. ومتنساش تروح مع السواق.
- معقول الغلبان حيستني حمد في السياره لحد الظهر؟! شو هاي "عبودية" ليش ما يروح وبعدين يجيله لما يخلص معك؟!
- وانت مال أهلك يا واد؟! هو راضي.. هو فين حيلاقي واحد في كرم عمك حمد بيقبضه آخر النهار مبلغ وقدره؟!
احتضنتي فجأة وقبلتني قبلتين وقالت: يلا اخلع.. أشوفك بعدين..
على أبواب الفجر...
بعد أن غسلت وجهي حتى أمحو آثار المكياج وأبدلت ملابسي خرجت على أبواب الفجر.. لفحتني هبات من الهواء البارد.. وبدا قليل من النور يتسرب من كتل الغيوم المتراصة بعناية لتغطي وجه السماء.. وجدت سيارة حمد المرسيدس تنتظر أمام العمارة..
أيقظت السائق الذي كان يغط في نوم غير مريح على الكرسي، وطلبت منه توصيلي حسب أوامر السيد حمد.. حملني بكل أدب وبدون أي كلمة..
في الطريق أخرجت المبلغ الذي أعطاني إياه السيد أنطون والسيد حمد لأفاجأ بألفين ومائتي دولار أمريكي وسبعمائة دينار أردني! بهت؛ فتلك أول مرة أمسك بمثل هذا المبلغ في يدي.. وتعجبت من سخاء بعض الرجال وهوسهم بنساء غير زوجاتهم، واستعدادهم لصرف كل ما يملكون من أجلهن؛ دون أن تربطهم بهن أحياناً أي مشاعر سوى ارتعاشة لا تدوم.. وهل هناك ضرورة لسن قانون يمنع الخلل الذي يعاني منه الرجل، واتباعه أهواءه أينما ذهب؟ وخاصة أنه يستظل بعباءة نظام الزواج الذي من المفروض أن يكون مقدساً! إيه.. دنيا عجيبة.. صعب فيها تطويع النفس ورضاها بالمقسوم..
أغمضت عيني أثناء صعود السيارة الطريق الجبلي المتعرج، وقد فتحت عصا سحرية الخزانة الخاصة لكل حكايات هويدا وآمال، وانسال الوجع إلى وجداني وأنا أتأمل طريق الآلام التي مضيا خلالها، وأوصلتهما لما وصلتا إليه:
آمال طفلة التسع سنوات، التي انتزعت من أحضان أمها، ومن المدرسة، لتعمل خادمة في شقة عائلة خليجية في القاهرة..
استعبدت طوال خمس سنوات لم تكن ترى إخوتها أو أمها سوى ساعات قليلة كل عام، أما والدها القاسي فقد كان يأتي ليحصل أجرتها الشهرية دون أن تراه أحياناً.. كانت جميلة، وجسدها جسد امرأة صغيرة، رغم الأربعة عشر ربيعاً..
ذات يوم رآها رجل في الستين من عمره كان في زيارة العائلة التي تعمل عندهم.. وقع في حب جسدها الفائر، عرض على والدها الزواج منها، ودفع له الكثير بمقياس أبيها الفقير والقليل جداً بمقياسه.. وافق الأب الجشع، واستخرج لها شهادة ميلاد مزورة لتصبح بموجبها بنت سبعة عشر عاماً، وتم الزواج دون أن تدري؛ رغم معارضة أمها وبكائها وتوسلاتها الكثيرة، وآمالها في أن تراها عروساً لشخص يلائمها..
تم شحنها مع زوجها المتصابي العجوز إلى الخليج، شرط ألا يقترب منها إلا حين بلوغها السادسة عشرة.. في الطائرة حذرها العجوز من أن تنطق بأي شيء عن كونها زوجته.. في منزله الكبير الذي ضم ثلاث زوجات وواحداً وعشرين بنتاً وولداً من كل الأعمار.. أراد استرضاء زوجته الأولى التي ليس لها أولاد، فقال لها: لقد أتيت لك بفتاة صغيرة وقوية لتبقى بجانبك ليل نهار.. وكانت تلك السيدة الطيبة تحظى بمنزلة عالية بين زوجتيه، ويحترمها الأولاد والبنات وينادونها "أمي العُودة".. عندما رأتها أول مرة قالت لزوجها: أنت جايب النار جنب الحطب؟ إنها صغيرة وجميلة، وأخاف عليها من الأولاد..
ضحك الزوج العجوز الكاذب وقال لها: إن الأولاد تربيتك، وهم يخافون ربهم، ثم إنك عندما تنتهين منها لن تنام مع الخدم خارج المنزل، بل ستسكن الغرفة التي فوق السطح، والمتصلة بجرس في غرفتك لاستدعائها أي وقت تريدين..
سعدت الزوجة الحنون التي كانت تعاملها كابنة لها، فأحبتها آمال، وجعلتها ملجأ لها وقت الضيق، تبكي على صدرها، وتسمعها تردد:
- سود الله وجه أبوك يا آمال.. كم هو قاس وشرير..
كانت آمال لا تخرج إلا معها وبأمرها، وفي نهاية اليوم تصعد إلى غرفتها فوق سطح المنزل مهدودة، تخاف وحدتها وغربتها؛ رغم طيب تلك السيدة الحنون، وتنزل في الصباح الباكر فتذهب إلى المطبخ الخارجي، وتتناول من الطباخ إفطار سيدتها، وتحظى هي بكوب من الشاي بالحليب وقطعة من الخبز المدهون بالجبن حسب طلبها، وتنتظر في غرفتها حتى تستدعيها سيدتها بجرس منها..
ذات يوم صحت آمال من نومها مذعورة على صوت طرق على الباب.. قامت من نومها:
- مين بيخبط؟
- افتحي. ميزت صوت سيدها، فلملمت نفسها وفتحت بسرعة، وهي متعجبة من زيارته الليلية.. دخل بسرعة وأغلق الباب وقال: كيفك آمال؟
- الحمد لله يا سيدي..
- ما تجولين سيدي.. أنا زوجك يا آمال..
لم تكن تستوعب معنى الكلمة إلا بعد أن همس لها:
- ادخلي الحمام وتسبحي ، البسي هذا..
كان في يده قميص شفاف لونه سماوي فاتح، له روب من الدانتيل..
- ولكن يا سيدي....
- ما ابغي كلام.. يلا روحي تسبحي ..
ابتعدت عنه باكية وهي تردد: الست لو شافتك هنا يا سيدي حتدبحني..
- أنا صاحب البيت هنى .. وأجولش أنا زوجك..
خرجت من الحمام وشعرها الطويل المنسدل مبلل.. غفا القميص السماوي فوق جسدها الندي الأملس، ووقفت في زاوية الغرفة خجلى من عري لم تعتده..
نظر إليها العجوز باشتهاء وقال لها: ما أروعك.. وايد جميله يا آمال.. تعالي.
نظرت إليه بخوف، ولأول مرة تراه عارياً، والشهوة تطل من عينيه.
اقترب منها ودفعها إلى السرير.. هجم عليها بقسوة.. لم يرحمها.. شرب من عذابها ووجعها مرة واثنتين وثلاثاً حتى ارتوى وتركها خلفه تنزف حتى الصباح، وعندما استدعتها سيدتها لم ترد.. صعدت إليها لتجدها عائمة في بركة من الدماء، صرخت صرخة عالية، صعدت على أثرها الزوجتان الصغيرتان وبناتهن وأولادهن.
- اتصلن بالإسعاف..
فتحت عينيها لتجد سيدتها معها في الغرفة تمسك بيدها، وهي تقول: لا بارك الله في الفياجرا وفيك يا مبارك..
هذت آمال تحت تأثير البنج بما حدث لها على يد زوجها مبارك..
كان شرط السيدة حتى ترضى أن يطلق مبارك آمال ويرجعها إلى أهلها، لم تصدق آمال أنها عائدة إلى وطنها، وفرحت كثيراً.. ولكنها قررت ألا تعود لأهلها.. حاولت أن تعمل في أي مجال آخر غير خدمة البيوت..
التقطتها يد محتال آثم أوهمها بالمجد والزواج، وقدمها لترقص في ملهى صديق له، ومن يومها أصبحت تنتقل من يد ليد، حتى حطت بها الرحال في الأردن مع زوجها المحتال الذي نهب كل ما وفرته من مال ومصاغ وتركها وهرب..
رفعت قضية طلاق من زوجها الفار.. وما تزال القضية معلقة لحين حضور الزوج! عملت راقصة في ملهى ليلي.. وما تزال حتى الآن تنتقم من كل الرجال، في شخص مبارك العجوز، ووالدها الجشع، وزوجها المحتال..
أما هويدا التي اضطرت للعيش مع عمتها بعد موت والديها على أثر انفجار قنبلة في الباص الذي كان يقلهما إلى بيروت لشراء بعض الحاجيات الضرورية، وقد تركا هويدا يومها حتى لا تغيب عن مدرستها عند الجيران، كانت إذ ذاك في العاشرة من عمرها، تدرس في الصف الخامس الابتدائي، في جنوب لبنان بمنطقة تسمى "علما" عندما ذهبت إلى عمتها التي كانت تقيم في قرية صغيرة لا تبعد كثيراً عن قريتها الجميلة وأهلها الطيبين في منطقة "دير ميماس" حيث عاشت هناك بمفردها؛ لأنها كانت قبيحة الشكل واللسان، وكل من حولها كان يشكو سوء خلقها.. كانت تعيش على بيع بعض الأشغال اليدوية التي تقوم بصناعتها.. كثيرة التأفف.. ولا يرضيها أي شيء في الحياة التي ملأتها حنقاً على كل البشر.. ولعدم وجود أقارب آخرين يقومون على رعاية هويدا اضطرت أن تقوم بتلك المهمة الصعبة عليها..
انصب كل تفكيرها على أن تهب هويدا للكنيسة، لتصبح راهبة، وتخفف من الإنفاق عليها، خاصة أنها منعتها من الذهاب إلى المدرسة، واعتمدت عليها في عمل كل شيء في المنزل؛ حتى تعمل بأكلتها كما كانت تقول لها، ويا ويلها لو أنها رفضت أن تذهب معها إلى الكنيسة لأداء الصلوات..
ولكن كان لهويدا رأي آخر، حيث وقعت في حب ابن الجيران بسام، الدرزي الذي أيقظ فيها حس المرأة، برسائله الملتهبة.. هربت معه إلى بيروت حيث يعمل، وكانت إذ ذاك قد أتمت السابعة عشرة من سنوات الشظف والقسوة والقهر مع عمتها.. وهناك تزوجا - بعيداً عن أهله وعمتها - زواجاً مدنيّاً..
ذاقت هويدا الحب، ونهلت منه صغيرة على يد زوجها وحبيبها الرائع الحنون.. مضت سنتان على زواجها، ولم تعرف عن عمتها أية أخبار.. ولم تحاول أن تعرف.. أما بسام فلم يقطع عادته في الذهاب إلى أهله أسبوعيّاً؛ على الرغم من عدم استقبالهم له، وإصرارهم على طلب واحد - إذا أراد صلحاً معهم - أن يطلقها ويعود إليهم، ولكن أبداً لم يكن يفكر سوى في إسعادها..
لم يكن ينغص عليهما إلا تأخر الحمل؛ حتى كان اليوم الذي ذهبت إلى الطبيب الذي أخبرها بحملها بعد إجراء الفحص لها.. لم تصدق يومها أنها حامل، فأسرعت بالعودة من عند الطبيب، وأيقظت بساماً بقبلة طويلة، وأخبرته بالبشارة.. من فرحته حملها ودار بها في شقتهما الصغيرة، ولم ينزلها حتى تعب..
لم تمر أيام على فرحتهما حتى استقبلت خبر موته برصاص قناص، أثناء تراشق النار بين فصيلين، وهو عائد من عمله في مطبعة لإحدى الجرائد الشهيرة ببيروت..
رفض أهل بسام استلام جثمانه لدفنه هناك، فدفن بمساعدة زملائه في المطبعة، في مقابر الصدقة.. وبعد الانتهاء من كل الأمور المتعلقة بدفن بسام عادت إلى عمتها التي رفضت أن تستقبلها مثل أهل بسام أيضاً على الرغم من معرفتهم بأنها حامل، فاضطرت أن تعود إلى بيروت بحثاً عن عمل..
وجدت نفسها وحيدة وغريبة، بقلب جزع، وحيرة لا حدود لها؛ فقد كان بسام هو كل حياتها، لا تعرف أحداً غيره وصديقه فيصل المسلم السني الذي كان يزوره أحياناً، ويعمل معه في المطبعة نفسها..
اتصلت بفيصل، وطلبت منه أن يؤمن لها عملاً، فسألها: أين ستقيم؟ فقالت إنها لا تزال في شقتها، ولكنها ستنتقل منها قريباً..
خلال وقت قصير كان أمام باب الشقة يجمع حاجياتها، واستضافها في بيته القريب. كان فيصل يعمل في المطابع مثل بسام رحمه الله، يغيب عنها طوال الليل، ويأتيها في النهار بعد أن تكون قد انتبهت من نومها، فتعد له طعام الإفطار، فيشكرها ويدخل لينام حتى العصر، ليصحو منتعشاً منتصباً أمامها بقامته الفارعة، ووجهه الوسيم، محاولاً إضحاكها وتسليتها بشتى الوسائل، دون أن يأتي على ذكر صديقه.. وكثيراً ما كان يسألها في مرح:
- تري ماذا أعد لنا الشيف على الغذاء؟
- كل اللي بدك اياه..
- كيف البيبي اليوم؟
- الحمد لله.. ما لاقيتلي شغل يا فيصل؟
أنا عم تَئِّل عليك..
- شو هيدا الكلام اللي بيزعل؟! هيدا البيت بيتك أولاً.. وأنا كلي تحت أمرك.. وإن شاء الله تجيبي لنا بسام الصغير.. وبعدها يحلها ألف حلال..
طفرت دموعها، وقد تذكرت ما هي فيه..
اقترب منها فيصل، وربت على يدها برفق قائلاً:
أنا آسف هويدا.. ما كان قصدي.
مسحت دموعها وهمست: ولا يهمك فيصل.. الله كريم..
تناولا الغذاء دون كلام، وشربا القهوة، واستأذن فيصل ليخرج إلى العمل، وقال لها: لا تنسي تسكري الباب منيح من جوه.. ولا تفتحي لحدا..
تلك كانت توصيته اليومية لها، ثم يغادرها بعد أن يترك لها بعض النقود، حتى إذا احتاجت شيئا تستطيع أن تشتريه..
كان منزل فيصل الصغير في منطقة مزدحمة بالأسواق والمقاهي التي كانت تغلق أبوابها مبكراً؛ خوفاً من اشتعال فتيل القتال بين الفصائل المختلفة في أي وقت، ودون سابق إنذار.. وكانت تستطيع أن تطلب أي شيء من الناطور الذي تعامل معها برفق شديد، وكأنها ابنته؛ شاكراً السيد فيصل على حسن أخلاقه..
كانت تتسلي وقت غياب فيصل بتنظيف البيت، وإعداد الطعام، ومن ثم ترخي العنان لدموعها الساخنة، وهي تسترجع قراءة قصاقيص الورق التي كان بسام المثقف الغارق في أوجاع الوطن الممزق يرسلها لها، عندما كان يأتي لزيارة أهله، مبدياً فيها ولعه بها وبحبها،
وأحياناً كانت تستعصي عليها كلماته الفصحى الحانية فتنتظر حتى يأتي ليفسرها لها..
تنساب الذكريات أمامها، وهي تمسك بالرسائل المختصرة القصيرة، النافذة كسهم والتي كان يعطرها بأنفاسه قبل أن يبعثها لها، تفتحها على مهل، وتمسك برسالته الأولى التي توالت بعدها الرسائل من طرفه فقط؛ لأنها كانت تقول له دوماً: بحر كلماتك الجميل يغرقني، وأخشى أن أرد عليك فتهرب مني..
تتذكر كيف كان يحتضنها بجانب النبع - مكان لقائهما - وهو يردد: سأعد عشر رسائل فقط؛ وإن لم تتزوجيني بعدها راحت عليكي.. وبالفعل قد تزوجا بعد رسالته العاشرة لها!
تتصفح الرسائل بترتيبها رسالة رسالة.. وتستغرق مع سحر المشاعر:
الرسالة الأولى:
أميرتي الجميلة: المسافة بين الزمن المحال واللحظة الممكنة هي المسافة نفسها بين نبضك الساحر وقلبك الشفاف.. بين العين وحدود الرؤية؛ فإلى متى ستظل قارورة عطرك الأثير وجسدك الكريستالي يشاكس شبكة الصياد؟!
أسيرة الزمن المحال: لقد وقعت أسيرك وانتهيت؛ فهل من يد تمسح عن وجهي سطوة الاختلاف؟!
الرسالة الثانية:
حبيبتي هويدا: لماذا تبخلين علي؟
هل يجب أن تكون الأميرات الجميلات بخيلات وقاسيات، وهل كل الهويدات متعبات؟
هل لأن أرض أيامك كفت عن الدوران، بعد مسيرة ربيع السابعة عشرة، وأعطتك من خصبها، وجعلتك نجمة في ليالي؟
ألآن شمسك تضاعف نارها داخلي، ولأنك قادرة على أن تؤدبي الحزن بابتسامة منك، وقادرة على أن تطعمي جسدك الكريستالي بالكبرياء إلى حد التخمة، ولأنك غير قادرة على إيقاف تدفق حبي على أرضك السهلة المنيعة؟!
الرسالة الثالثة:
مطر عباءتك يدق نافذة روحي! وعطر جسدك يحرضني على أن أعبئ جيوبي بالنجوم، وأترقب طلتك من الشباك لأنثر ما في جيوبي من دراري يسعدها لو أشبهتك..
أفكر فيك..
الرسالة الرابعة:
ها أنت تفرضين حصاراً جديداً علي، حصار اختلاف ديانتينا الذي لا يود الاختباء بين الأوراق، كيف يلتقي في أعرافنا درزي ومسيحية؟! دعينا نتوضأ بعبير الإنسانية يا أميرتي.. يا أميرة العطر المشاكس.
الرسالة الخامسة:
أنا لا أملك إنكار كرمك حبيبتي حتى في امتلائك بالأسئلة، وأشعر بأنها المرة الأولى التي أتذوق فيها قبلة من أميرة معبأة بالأسئلة.. أليس غريباً أن يقتلني العطش، وفي عطر جسدك يكمن الغرق؟ أليس غريباً أن يفرقنا دين ينص على المحبة؟!
صباحك وردي الحضور.
الرسالة السادسة:
دفء يديك تركته يتنزه في أوردة الوجد، فهو وحده القادر على أن يزرع الابتسامة في قلوب البسطاء مثلي، وأن يجعل النشوة تنام مطمئنة فوق أناملي!
الرسالة السابعة:
أسألك بالله الذي نجله أجمعين: هل هناك فرق بين الوردة والعطر الذي ينسكب منها؟
هل هناك فرق بيني وبينك كوني درزيّاً وكونك مسيحية؟
إننا نخبئ الدين بين الضلوع , وردة تمرح بطفولة , على أرجوحة من نور في حنايا القلب..
الرسالة الثامنة:
سأقايضك: امنحيني قبضة من عطرك، ونذراً بأن تكوني لي.. وسأمنحك مسافة من أوردة الوجد، أو حتى إقطاعية من قلب أخضر!
سأفخر بأننا قادرون على أن نبني قصراً من الرمال تحت زخات المطر، وأن نبني مدينة من الثلج تحت خط الاستواء؛ لأن بريق عينيك، وسحر ابتسامتك وتفاصيلك المستأثرة بكل الجمال دون نساء الأرض، جرفت البقية الباقية من صمودي الهش أمام جاذبيتك؛ فكيف لا أعرف أن أغرق في حبك وبهائك؟
الرسالة التاسعة:
موافقتك أخيراً على الزواج كفيلة بأن تجعلني عاشقاً أبديّاً لتضاريس جسدك وقلبك، وأسير لذة قادمة لا تنتهي؛ لأهديك من قلب قلبي وردة الثريا، تنير عتمة الروح، وحتى نلتقي تكفيني قطرة من عطر يدك، لتصافحني وتنعشني إذا مست جبهتي , وتمنحني نوراً بألف نور؛ لأن في داخلي حنيناً إلى حنان يديك، وشوقاً لعينيك، نافذتي للروح العطشى للارتواء..
الرسالة العاشرة:
اليوم موعدنا حبيبتي.. قلبي في انتظارك مساءً، يهدهد أشياءه العطشى إليك.. ويفتفت على وجنتيك تحية: أ ح ب ك.. أ م ي ر ت ي
غامت في عيني هويدا الجميلتين الدموع، ونامت محتضنة ذكرى حبيبها.. في الشهر الثامن جاءها المخاض.. أسرع بها فيصل إلى المستشفي حيث وضعت طفلاً ذكراً ولكنه.. ويا للحسرة.. كان ميتاً..
بكته كثيراً وهزتها الأحزان.. وطلبت من فيصل أن تغادر، حتى لا يسيء له ولها الجيران.. أسعدها الله بطلب فيصل ليدها قائلاً إنه كان ينتظر أن تضع حملها..
تعجبت من نفسها وهي توافق على الزواج منه، وكأنها نسيت حبها الكبير لبسام..
عاشت مع فيصل حتى سن السادسة والعشرين حياة هادئة هانئة.. كان جمالها قرة عين فيصل..لم تحمل مرة أخرى فظن أن العيب منه، وبدأ يتابع الأطباء الذين أكدوا أنه لا ولن يستطيع أن يكون له ولد لعيب خلقي غير قابل للعلاج. طلقها طلقة بائنة دون أن تدري، حتى تتزوج وتحيا حياتها كما قال لها.. كان سخيّاً فلم يظلمها، وطلب منها إن هي احتاجت له فسيكون تحت أمرها، حيث سيعود لقريته قرب سهل عكار..
بعد طلاقها من فيصل تقاذفتها الأيام والظروف التعيسة.. مرت بها ظروف تجبر الصخر على الانحناء.. ولأنها لم تكن تملك سوى جمالها فقد تقاذفتها الأيادي القذرة، ورضيت أن يلتهمها الذئاب لقمة سائغة، وذهبت إلى الأردن على يد إحداهن كانت تعمل راقصة هناك، قامت باستخراج جواز سفر لها، وأرسلتها لتعمل في ملهىً ليلي، مضيفة وراقصة - إن احتاج الأمر - ومسلية للزبائن.. هناك التقت بآمال فأصبحتا صديقتين، تتاجران بجسديهما، وتحرقهما الغربة في أتونها، وتلسعهما الحاجة للحياة الكريمة بنارها، دون العثور عليها..
شعر نداء بدموعه حارة تهمي، فبكى نفسه وبكى من أجلهما..
عندما وصل إلى غرفته وجد صديقه جهاداً جالساً في انتظاره أمام الباب، وقد رآه ينزل من السيارة المرسيدس فقال:
ولك نداء وين كنت يا عرص.. شو بتشتغل من ورايا..
احتضن نداء صديقه وهو يضحك، وتنفس أريج أرضه من خلاله..
- تعا ادخل هلأ بنحكي..
دخلا الغرفة التي كانت ذات مدخل خاص، بمعزل عن الفيلا الكبيرة وكأنها بنيت من أجل عزلة نداء..
أفرغ جهاد شنطته وهو يقول:
- والله حلوة غرفتك يا ملعون.. جبت لك شوية عنب على دين كيفك من بتاح تكفا، وكمان شوية برتقال وفطاير مشكلة وكعك بالتمر ومعمول من الوالدة وسلامات وأشواج من أختك سحر ومن ديفيد ورافاييل وزيدان السوري ومحمد عبد السلام المصري..
- أوكي حط كل إشي على جنب.. واحكيلي شو اللي جابك..
- يخرب ذوقك.. شو ما بدك تشوفني؟ هادا جزائي اللي بدي أطمن على أحوالك؟ على كل أنا ما راح أطول عندك..
- يا غبي بدي اياك تطول.. أنا مشتأجلك كتيير..
- شوف يا سيدي: أنا جاي استشيرك بشغله مهمة.. أنا بدي اتزوج!
- مبروك.. ومين المحظوظه إن شا الله؟
- راحيل.. إبنة المعلم رافاييل..
- شو !؟ واو.. آخرتك يهودية يا مصخمط على عينك؟ خلصوا بنات العرب؟
- الحب يا نداء.. أنا كثير بحبها.. وهي حامل كمان.. وأبوي وأمي مش موافجين وبدهم يزوجوني بنت عمي.
- وعرفوا إنها حامل؟
- إنت هبيلة ولا هبيله؟ كيف بدي أجولّهم؟ لو عرفوا لطخُّوني..
- وين كنت تشوفها؟ واتأكدت أن الحمل منك يا حمار؟
- آه يا عرص.. أنا حمار؟ ولك ما انخلق لسه اللي يضحك علي، وبالذات في هادي الأمور، اطمئن أنا بالفعل كنت أول واحد.. وأنت عارف هدول ما بيكذبوا، إذا كان قبلك ألف فحيقولولك ما بيهمهم.. بناتنا بس اللي بيكذبوا، بيعملوا عمليات الترقيع طول الوجت، والرجل العربي الحمار المغفل بيصدق إنه الأول والأخير!
- لا تحكي عن بناتنا ولا تجمع وحياة أبوك.. ضَلّك يا خويا في إسرائيل، بس لا تجيب سيرة بناتنا..
- ما شاالله.. والله صاير مصلح اجتماعي كمان..
- متى حتتزوجها يا فالح؟
- ما بعرف.. بدها شي ست شهور بس تخلص كليتها..
- راح تسلم ولا بدك تتزوج زواج مدني إنتا التاني؟ ما هي موضه هالأيام..
- وانت حتجول فيها.. هي بالفعل تقرا الآن عن الدين الإسلامي، وجالت لي اتركني كما أنا حتى اقتنع.. وأنا بموت فيها، سواء أسلمت أم لم تسلم..
- حلوه يا جهاد؟
- يا سلام! هادا سؤال تسأله؟ أخوك ما بيوجع غير واجف.. فلقة قمر.. مره بحق الله.. تعطيك حلاوة الدنيا لتتجرعها في لحظة.. في السرير فرس، لا تنتظر المبادرة مني كنسائنا العربيات.. هي تخترقني كل وقت وأي وقت يحلو لها.. صريحة في حبها.. شافتني عند أبوها، ومن يومها واحنا بنشوف بعض في المخزن أو في غرفتي لما يكون محمد عبد السلام في المناوبة، تيجي لعندي، وترجع الفجر منشان يشوفها أبوها قبل ما يروح شغله، وهي تروح على جامعتها.. وازيدك من الشعر بيت: جالت لابوها إنها حامل وبدها تتزوجني.. زعل شوي منها، وبعدين جالها إنتي حرة.. هادا اختيارك..
- ما شاء الله.. ربنا يزيدك من نعيمه يا سيدي.. وكمان بدك تتزوج جامعية وانت ما معك إلا ثانوية..
- الحب ما بده شهادات ولا خبرة عمل، الحب ما بده يكون وهم وحلم بعيد المنال..
- وكمان صرت شاعر يا زفت..
- أنا الآن أتسلى بالقراءة.. فقد فتحت راحيل قريحتى على أشياء وأشياء..
- يا سبحان الله..
- وبدي كمان أكمل بالجامعة انتساب لأي داهية.. لأنها بتدرس سياسة واقتصاد.. يعني فضيحه يا زلمه..
- والله انها هبله اللي حبتك..
- بتعرف محمد عبد السلام؟ تزوج عربيه من عرب الـ48 وما بده يرجع لمصر أبداً.
- وليش؟ هو ممنوع يرجع؟
- لأ بس لانه الناس هناك ما راح تفهم انه تزوج عربية بل سيقولون إنها يهودية وخاصة إنها تحمل الهوية الإسرائيلية،، ومصر تحديداً وعلى المستوي الشعبي لا تقبل أي تطبيع لعلاقات مع اليهود فما بالك بالزواج.. وخاصة أن عرب الـ48 ينظر إليهم من الطرفين سواء من العرب أم من اليهود بحذر شديد..
- وكمان صرت تفهم في السياسة؟
- طبعا كله من راحيل يا واد..
- طيب إيه رأيك تروح معي الكلية بعد شوي، نفطر هناك، وبعدين نتمشي شويه في عمان، تشوفها وتشتري اللي خاطرك فيه..
- لأ أنا تعبان الآن.. بدي أنام.. روح على كليتك، ولما ترجع نروح أي مكان نتمشى لأنه ضروري أكون على الجسر بكره الفجر.. منشان عندي شغل كتير..
- أوكي.. الغرفة غرفتك.. تصرف متل ما بدك حتى ارجع..
خرجت إلى الطريق أفكر في جهاد وقصة حبه، وأحرقت قلبي الحسرات، الكل يحب ويُحَب وأنا مكانك سر.. محتار بين منطقتين.. لا حول ولا قوة إلا بالله.
فجأة قررت ألا أذهب إلى الكلية، وأعرج على السوق لأشتري بعض الأغراض وأوصي على منسف من محلات جبري، حتى أكرم صديقي جهاداً..
انتهيت من رحلة التسوق سريعاً وعدت إلى البيت.. كان جهاد لا يزال نائماً.. وضعت الأشياء التي اشتريتها في مكانها، وجلست أمام الكمبيوتر في انتظار أن يأتي الغداء لأوقظ جهاداً الذي علا شخيره كالعادة..
في الواحدة دق جرس الباب، وتناولت الطعام من صبي المطعم وأعطيته النقود. رتبت الأكل على الطاولة وناديت على جهاد حتى يصحو ففوجئ بما أحضرت وغضب مني قائلاً:
- شو هادا اللي سويته؟ هو انا غريب، الله لا يعطيك عافيه؛ خربت ميزانيتك هالأسبوع.
- يا عمي قول يا باسط: أنا ولله الحمد بدرس وبشتغل براتب كويس، وما بحتاج حتى أختي سحر إلا في النادر..
- برافو عليك يا نداء.. رجل ولا كل الرجال.. والله العظيم أنا بحبك جداً.. إنت نعم الصديق، واللي مش عارف بيقول كف عدس لأنا بنحكم على الناس بالمظاهر.. شو هادا القرف؟ امتى حنتغير ونصير رجال؟
جلسنا إلى الطعام نأكل صامتين، حتى قطع جهاد الصمت بسؤال:
- شو ما في إيشي جديد في حياتك.. لا عملية.. لا نسوان.. ولا حتى رجال..
- الشهادة أولاً.. وبعدين الشغل وبعدين العملية شو رأيك بهالحياة..
- تسكر النفس.. وان شاء الله ما بعيش حياة متلها أبداً.. بس أنا مش مصدقك وإذا كانت هادي حياتك وين كنت امبارح للفجر
الفصل السابع: بل غيتس شخصيّاً
قص نداء كالعادة القصة كاملة على جهاد، وهو الذي ما اعتاد أن يخفي عنه شيئاً.. وما حدث له مع آمال وهويدا في تلك الليلة بالتفصيل. ضحك جهاد حتى دمعت عيناه وهو يقول: والله فكرة حلوه يا نداء، إنت بالفعل مثل القمر، ولما تلبس متل البنات متأكد إنك حتكون صرعه..
- أنا مش فاضي لهادي الأشياء، على الرغم من ربحها الوفير والمضمون؛ فأمامي أهداف محددة، ولن أحيد عنها.. كما أني أدرك أن لشكلي فائدة اقتصادية، وللجمال سطوة كما تعلم.. ولأسلوب التعامل أيضاً سلطة، وأستطيع أن أجني ذهباً من هذا، لكن لا أرضاه لنفسي.. وأين أذهب بعلمي وثقافتي وإخلاصي وحبي لله.. قد لا يكون الأمر لكوني متديناً أم لا، لكن تلك حدود وخطوط حمراء، وضعتها بنفسي ولا أستطيع تجاوزها..
قام جهاد من مكانه واحتضنني وقال: يخرب عقلك، والله بألف رجل من اللي مسجلين في شهادات ميلادهم "رجل"، بالفعل أنت يفخر بك من يعرفك والنعم منك يا نداء.. لم أذهب إلى المحل أيضاً في ذلك اليوم، واعتذرت للسيدة "شذا" بسبب وجود صديقي جهاد..
تجولنا في عمان حتى المساء، اشترى صديقي بعض الهدايا، وقميص نوم أبيض أوصيته بشرائه ليوم الدخلة على راحيل.. قرصني في مؤخرتي وهو يكركر:
- دماتك خفاف يالملعون..
غادر جهاد إلى إسرائيل مارّاً بأهله مرة ثانية، وعدت كما كنت إلى الدراسة والعمل.. أنهيت دراستي بنجاح، وحصلت على شهادة دبلوم في تصميم المواقع بتميز، بل فزت كذلك في مسابقة طرحتها شركة ميكروسوفت عن أجمل تصميم يعبر عن تداعيات ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر وتأثيره الكوني.. وقد كان مركزي السابع على العالم من بين آلاف المتسابقين، فوصلتني شهادة موقعة من بيل جيتس شخصيّاً، وشيك بعشرة آلاف دولار!
فرحت كثيراً بالمبلغ، واعتبرته نواة للتوفير من أجل العملية؛ هذا بالإضافة إلى المبلغ الذي منحني إياه أنطون وحمد.. كانوا تقريباً ثلاثة عشر ألف دولار.. وقبل زيارتي إلى بيت لحم اشتريت طقم ذهب لحبيبتي وأمي سحر ومجموعة كرافتات لزوجها الغالي أرفقتها بدعوات من قلبي بأن يرزقهما الله ولو طفلاً واحداً يلون حياتهما بالبهجة التي يستحقانها، كما اشتريت خاتماً جميلاً لزوجة جهاد، وزجاجة عطر له..
بعد حصولي على المركز السابع ونشر صوري في الجرائد التي أفاضت في الحديث عن عبقريتي وإبداعي، تهافتت شركات التصميم علي..
اخترت واحدة منها، واشترطت أن يكون دوامي نصف دوام فقط.. تابعت عملي صباحاً في الشركة ومساءً في المحل وتوسعت علاقاتي، ونجحت في اجتذاب عدد كبير من الزبونات للمحل..
ومع إعجاب الرجال بشكلي الفاشن أصبحت مدمناً لجمالي، وتقاطيع وجهي، ولون عيني الرمادي، ونهدي المشتعلين باستدارة بديعة، وبشرتي البيضاء الملساء الصافية..
وخلعتُ قشرة الرجل ...
آه منك يا آمال! ماذا فعلت بي؟ الله يسامحك..
منذ أن فعلت بي ما فعلت، وخلعت قشرة الرجل عني في منزلها، وأنا أسير للمرأة داخلي: أتأملها.. أتحسسها في جسدي.. وعندما أنفرد بنفسي أجدني أرتدي الملابس النسائية الزاهية الألوان والشفافة والمفتوحة عند الصدر، لتظهر جماله الذي كنت أخفيه عن أعين الرجال بملابسي الرجالية الواسعة.. وأظل أدور في انتشاء أمام المرآة..والنار تأكل جوارحي!
لا معنى لشيء في هذه الحياة إلا الوحدة والموت "إيرمان سالاكرو"
في تلك الفترة كان جسدي كله يؤلمني، ولا أدري السبب؟
ذات يوم اعتمدت قليلاً على يدي فإذا بها تتفتت، وكأن عظامي أصبحت كتلة من تراب.. أسرعت بالاتصال بالدكتور حاييم بعد أن تم تجبيس يدي في مستشفي الحسين بعمان، وكان السؤال الملح: لماذا تتفتت عظامي؟ هل هي الآثار الجانبية للهرمونات الذكرية التي أتناولها؟
سألته كذلك عن عصبيتي التي أصبحت واستثارتي من أي شيء، وكل شيء، وكرهي الشديد للناس مع أنه كره في رأيي مبرر.
قال لي الدكتور حاييم إن كل ما يحدث لي هو شيء طبيعي؛ لأن الهرمونات الذكرية لم تناسب حالتي منذ البداية، كما أنها لن تناسبني فيما بعد.. وتكسر العظام والمزاج السيئ كلها أمور طبيعية في هذه الحالة حيث أعاني من حالة أكثر تعقيداً من الكلاين فلتر وتعني حالة تبلد الجسد، وعدم تفاعله مع الهرمونات الذكرية؛ فلقد خمل الهرمون، ولم ينجح في تقليل الأعراض الأنثوية.
وأردف د. حاييم: لقد أثبت تحليل دمك قبل أن تغادر إسرائيل أن الهرمونات لا تعمل مع احتمال إصابتك باللوكيميا؛ لذلك أوصيك بعمل تحليل لدمك كل ثلاثة أشهر، وأن تتوقف عن تعاطي الهرمونات الذكرية فوراً.. وغيرها إلى الأنثوية، ثم تابع مع طبيب مختص بالأردن أو مصر؛ حيث إن من الممكن إجراء عمليات التحويل بعد عدة فحوصات، فحالتك واضحة لا لبس فيها..
صدمني ما قاله الدكتور حاييم.. إذن ها هو الموت يلوح لي. ترى هل كانت الهرمونات الأنثوية هي الأنسب منذ البداية؟
أكان من الممكن تلافي كل هذا لو ساعدتني أمي ومن حولي في الاختيار الصحيح؟
جن جنوني.. أصبت بالصدمة، وزادت كوابيسي حتى صار النوم رعباً.. ليس من المرض الذي ترك بصماته فوق جسدي الضعيف فحسب، ولكن من كل شيء وأي شيء.
هدم أمام عيني كل ما بنيت..
آه يا روحي.. يا ذاتي المتعبة.. يا عمري الذي ضاع بين هذا وذاك..
تباً للجميع.. تباً لأبي.. تباً للمرض.. تباً لأمي.. تباً للذكورة والرجولة والأنوثة والعار.. تباً لي ولحياتي.. تباً لعزرائيل إن لم يغيبني بالموت..
لم لا تنقذني بالموت يا رباه.. أنقذني يا رب.. خذني عندك.. ترفق بعبدك الذي لم يسئ لأحد.. خذني لرحابك يا الله فأنا في حاجة إليك..
وبكيت ما شاء لي البكاء وحيداً منكسراً..
بئس ما فعلت بنفسي.. وبئس ما فعله المجتمع بي..
اختار جميع من حولي الهرمونات الذكرية إلا أنا..
يالله خضعت لإرادة الجميع غيري أنا.. صغر سني، ورغبة من حولي أخطأت بي الطريق.. يا حبيبي.. اعني يا معين..
على أن أبدأ من أول المشوار، وأتعاطى الهرمونات الأنثوية، وبمتابعة طبيب في عمان.. لم يكن باليد حيلة.. اتكلت على الله.. وماذا سيحدث لي أكثر مما حدث بعد خيانة كل من حولي..
مرت الأيام بي مملة ثقيلة.. أتعاطى الهرمونات، وأعمل وأعمل حتى أنسى.. أراوح ما بين الشركة في الصباح والمحل في المساء..
أنستني الأيام ما أنا فيه وكنت أتابع تغييرات جسدي والتحليلات الدورية.. اكتسبت خبرة ممتازة في التصميم، وطورت نفسي، وأبحرت عميقاً في عالم الكمبيوتر.. كنت أظل ساعات طويلة أمامه.. جعلته صديقي الحميم أتوافق معه تارة، وأتشاجر تارة أخرى.
تعاملت معه كإنسان عاقل.. أحادثه بصمت.. وهو يستمع ويطيع..
- اشتغل، اخرس، يلا حبيبي، والله إزا ما بتشتغل يا اخو الـ 60 شر... بيكفِّي بلادة.. وبعدين معك.. أصبح جزءاً مني وأصبحت جزءاً منه..
هكذا كنت أقضي أيامي.. في الشارع ربع رجل، يبحث عن عيون النساء، وفي المنزل ثلاثة أرباع امرأة بجمال صارخ فتاك، تبحث عن صدر رجل تدفن فيه همومها، وخوفها من المجهول..
آه ما أصعبها من حياة.. كم أتمني أن يزورني الموت..
إذا كان الشيطان وراء الباب فإن إغلاق الشباك لا يفيد شيئاً"كوستلو"
كنت جالساً في المحل أقرأ في كتاب يتميز بركاكة الترجمة وسوءها "سيارة الليكساس وشجرة الزيتون".. وهو محاولة من توماس فريدمان لفهم العولمة.
باغتني صوت نسائي رقيق يقول: إنه تافه لا يستحق القراءة؛ لأنه يمجد أمريكا؛ إذ يقول فيه: تتطلب العولمة القابلة للاستمرار هيكلاً مستقرّاً للقوة.. ولا توجد دولة أكثر قابلية لذلك من الولايات المتحدة!! شفت أكتر من هيك استفزاز.
رفعت بصري فرأيت صبية مكتملة شهية، تمسحني بعينين جريئتين من أسفل لأعلى..
وقفت وتركت الكتاب جانباً وقلت: أول مرة أعرف أن هناك جمالاً يقرأ ويحفظ أيضاً.. أمرك.
رأيت نظرتها وقد تسمرت فوق صدري وأعتقد أنها كانت تخمن: ما أنا على التحديد؟
وبالفعل سألتني: أنت رجل أم امرأة؟
لست أعرف سبب الجرأة التي هبطت فجأه علي؛ فلأول مرة في حياتي أنطقها صريحة دون أي تردد: أنا الاثنين.. أنا الذكر.. وأنا الأنثى.. فمن تريدين منهما؟
قالت: مع أن الصوت لذكر فإنني أرغب في الأنثى.
اعتقدت في البداية أنها تريد التحدث معي بأسلوب الأنثى التي تقدر على فهم الأنثى..
لكن اعترافي الصريح كانت نتيجته صراحة متبادلة.
أكملت حديثها: أنا لا أحب الرجال.. ومن الواضح أن للمرأة فيك حظّاً كبيراً؛ فليكن تعاملي إذن مع أنثاك التي تحياها، وأتمنى لو أصبحنا صديقتين..
- اسمي نهال..
- تشرفنا.
لاحظت وميضاً دافئاً يتدفق من عينيها.. وبعين الرجل داخلي تفحصتها جيداً: قامة فارعة بلطف.. بشرة مشربة بحمرة.. نهدان قويان نافران كتفاحة ناضجة تصرخ لاقتطافها.. شعر قصير أشقر ناعم، تنسدل غرة منه فوق جبينها، لا تخفي حاجبيها المشدوين بأناقة وتهذيب.. عينان جريئتان لونتهما أشعة الشمس التي تملأ المحل بلون عسلي فاتح، وفم يحظى بأجمل شفتين مكتنزتين.. كأنهما على استعداد دائم للتقبيل.. سمعتها تقول:
- على فكرة: أنا دخلت المحل لمجرد النظر فقط، ولكن يبدو أن حظي سيكون مبهراً؛ فأنا أبحث منذ زمن عن صديق أو صديقة.. وها أنا أقع على الاثنين في واحد.. وهذا شيء فريد ونادر.
قلت لها وقد كنت كالغريق الذي يتشبث بقشة: أتمنى ذلك.. والآن.. ماذا تريدين ؟
- لا شيء.. أدرب نفسي على حياة جديدة.. حياة النساء!
لاحظت نظرة التعجب التي لاحت في عيني وقالت: أنا عدت منذ فترة زمنية قصيرة لأنوثتي, بعد أن كنت قد أقصيتها تماماً؛ متعاملة في شكلي ومظهري مع الرجل داخلي..
وكأني وقعت على كنز فقلت لها: هل لي أن أراك على فنجان قهوة بالخارج.
فاجأتني.. بل لطمتني عندما سألت: أليس لك منزل نلتقي فيه..
سجلت العنوان ورقم الهاتف سريعاً على ورقة حتى أتفرغ لزبونة كانت قد أوصتني على بعض الأغراض..
تناولت الورقة مني.. وقبل أن تغادر سألت: اليوم متى ستغلق المحل؟
- في العاشرة سأكون بالبيت.
- العاشرة والنصف سأكون عندك..
سألت نفسي كثيراً: كيف ستهرب من أهلها.. وتأتيني في العاشرة والنصف.. هل تعيش بمفردها في عمان.. ماذا تريد مني؟ مئات من الأسئلة حفرت أخاديد في نفسي دون ارتواء عندما كنت أشتري لي ولها سندويتشات شاورما وبيبسي.
أتت في موعدها تماماً وبنفس ملابسها، القميص الأحمر بوروده الصغيرة التي لدقة رسمها تبدو فواحة بعطرها.. بنطلون الجينز الذي التصق بنصفها الأسفل كاشفاً عن جزء كبير من أنوثتها..
لم أكن أتوقع أبداً ما حدث.. فقد خلعت القميص أولاً ليفر نهداها من أسرهما؛ إذ لم تكن ترتدي صدرية تحت القميص.. ورمت بالبنطلون جانباً ووقفت كفينوس.. تنتظر القربان من مريديها..
- أعطني بيجامتك أو أي شيء؛ لأني لن ألتف طوال الليل بملاءة السرير، ما لك واقفاً هكذا ا كأنك لم تر جسد امرأة من قبل.. كيف والثلثان منك أنثى؟
ودون سابق إنذار هجمت علي، وراحت تفك أزرار قميصي ليخرج صدري هارباً من قيده.. وضعت يدي لأخفي ما ظهر مني فأبعدتهما ووضعت يديها فوقهما وقالت:
إياك أن تخجل من كونك هكذا.. ثم نظرت إلى وهمست: كم أنت جميلة يا نداء!
لست أدري ما الذي تحرك في جسدي وأنا مستكين بين يديها، وقد أخرستني جرأتها..
- على فكرة يا نداء: إذا أحببت أن تخلع البنطلون فلتفعل..
صارعتني نفسي: كيف أكشف لها عن عاري؟ كيف أدعها ترى رايتي غير الخفاقة؟
كانت تدور في المنزل عارية تماماً وأنا أفكر في البحث عن سبيل مشرف للانسحاب..
فتحت الورق عن السندويتشات، وأفرغت البيبسي في كوبين، وأجلستني بجانبها على الكنبة، ومدت يدها لتقرصني من صدري وهي تضحك: إلى متى ستبقي مشدوها؟
أخفيت خجلي خلف ضحكة مصطنعة، وتناولت السندويتش من يدها.. وبدأت هي تتكلم فأحسست أنني أعرف تلك الفتاة منذ زمن بعيد..
رحت أطرح عليها أسئلة كثيرة، وأبحث داخل إجاباتها عن منطق يحكم تصرفاتها..
سألتها: كيف سمح لها أهلها بالخروج في هذا الوقت المتأخر؟
ألم تزل عذراء أم...؟
ضحكت بصوت عال واستمرت في تناول السندويتش والبيبسي، ثم قامت إلى الحمام تتهادي بجسدها الفائر أمامي..
عند عودتها أزاحتني قليلاً، وألصقت جسدها البركاني بجسدي النائم، وقالت:
- طبعاً أنت على استعداد لسماعي، ولكني أريد أن تحكي لي أولاً عن نفسك؛ من طأطأ لسلامو عليكم..
- قصتي طويلة ووقتنا قصير، فتكلمي عن نفسك أولاً.
- سأبيت الليل هنا معك.. ومن الممكن أن آخذ إجازة ليومين أقضيها بصحبتك.. هيا.. انثر ما في نفسك في الهواء أمامي ولا تخف شيئاً..
بدأت أروي لها قصتي منذ بدايتها، وحرارة يدها التي تلامس صدري بين الحين والآخر تشعل في حريقاً لا أدري كيف أطفئه.. كانت تبكي كلما حكيت عن قسوة والدي، وكيف أوصلني جهله لحالتي تلك.
الساعة الثانية صباحاً قلت لها: ها هي قصتي أمامك، والآن جاء دورك فقصي على قصتك.
- لقد تعبت من الجلسة على الكرسي.. فلندخل نتمدد على السرير.
أخذتني من يدي دون أن تنتظر موافقتي، وانحنت على سحاب بنطلوني محاولة فكه فرفضت بشدة أن أخلعه قائلاً إنني لم أفعلها في يوم من الأيام، حتى أمام أمي رحمها الله!
ضحكت مكركرة وقالت: أنت تخجل من كون راية الرجل فيك منكسة.. ألم أقل لك إنني أريد أنثاك لا الرجل فيك..
أيضاً رفضت.. تمددت على حافة البركان وكنت أهيم متحسراً حول شواطئ جسدها دون الجرأة على الخوض فيه..
كانت تلك أول مرة أشعر بالأنثى داخلي تتحرك دون قيد..
في السرير كنا أنثيين متماثلتين.
قالت: أنت تراني جميلة.. أليس كذلك؟
لم تنتظر إجابة وتابعت: أنا بالفعل جميلة، وسيرغب أي رجل بي عندما يراني، لكن المشكلة كانت بالنسبة لي أبي الذي ناصبني العداء منذ لحظة ولادتي وموت أمي.. لم يكن يحب البنات؛ على الرغم من كوني الوحيدة والأخيرة بعد خمسة من الصبيان.
كان والدي شديد التمسك بالتقاليد التي تفضل الذكور، وكان كثير التفاخر بصبيانه الخمسة.. لم أذكر يوماً أنه لمسني أو قبلني ولو مرة واحدة.. وعندما تزوج بعد شهر من موت أمي سلمني بلا إحساس لجدتي لأمي التي كثيراً ما كنت أسمعها تدعو عليه وعلى زوجته في صلاتها..
ولست أدري ما الذي يجعل الرجل ينقلب من الزاوية المستقيمة إلى المنفرجة بين امرأة وأخرى؛ إذ أقنعته زوجته الجديدة بأني نحس ولا بد من التخلص مني.. فتحجج لجدتي بصغر سن زوجته الجديدة، وأن عدم خبرتها وخوفه على هو الذي جعله يأمن لجدتي..
تربيت عند جدتي التي أورثتني كراهيتها لأبي وحقدها عليه.. كنت كثيراً ما أسمعها تقول: حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا ناصر.. لقد قهرت ابنتي، فعاشت معك ذليلة ضعيفة حتى ماتت! وكان حسب روايات جدتي ينهرها على كل شيء؛ حتى إنه منعها من زيارتها وهو يعلم بحبها الشديد لها، وبأنها كانت تقيم بمفردها بعد وفاة جدي..
كان هناك دائماً ما يستوجب رفضه زيارتها أي أحد.. حتى جاراتها منعها عنهن. حرمها من استقبال أي من إخوانها وأخواتها الذين كانوا يأتون للاطمئنان عليها..
كانت جدتي كثيرة التشاحن معه دفاعاً عن ابنتها، ولكنها كانت تتراجع بمجرد أن يقول لها: خذي ابنتك وارحلي بلا رجعة..
ونظراً لشدة بكاء أمي، وخوفها من أن تحرم من أولادها.. كانت تستسلم لهزيمتها من قبل هذا الرجل، متحسرة على تزويجها منه..
كنت فرعاً من غصن أمي التي أحبتها جدتي بتطرف، وحزنت كثيراً لفقدانها، فأغدقت علي من نبع حنانها، وعشت وإياها ومربيتي أم حسني، في منزلها الكبير، بعد أن تفرق أولادها وبناتها الستة في مشارق الأرض ومغاربها..
رفضت جدتي طلب أبي بأن أقضي يوم الخميس والجمعة في منزله.. وبعد حرب طاحنة بينها وبينه قررت أن تسمح لي بأن أذهب في زيارة قصيرة مرة كل أسبوع..
تعلمت أن أكتم أي أمنية لي أمام أبي وزوجه.. وكنت كلما أجتمع معهم وإخوتي أشعر بغربة سحيقة.. وبأنني طفلة بالفعل بائسة تحاسب على كل حركة تصدر منها.. بحكم تربيتي بعيدة عن إخواني لم أشعر في يوم ما بقربهم مني.. باختصار تعلمت كيف أكون اثنين مختلفين.
كدت أعتقد بأن كل الممنوعات التي في الدنيا كأنها قد سنت من أجلي.. وكنت أعجب لتلك الحرية غير المحدودة الممنوحة لإخواني في حلهم وترحالهم، وكلمة "إنتي بنت" التي تلاحقني لتحطم كل شيء جميل بداخلي..
أصبحت كما تريد جدتي وأبي وزوجة أبي وإخواني وكل العالم.. إلا أنا!
تعلمت أن أكون قاسية وقليلة الأدب على حد قول زوجة أبي لأني "تربية نسوان"!
كبرت وكبرت معي كراهيتي للرجال.. فحاولت تقليدهم.. تمنيت لو كنت رجلاً؛ ليس لحبي ذلك، بل لأنتقم من أبي الذي عانيت من معاملته القاسية لي..
كان والدي يغضب عندما يراني أقلد الأولاد في ملبسهم ومشيتهم.. وعندما أرفع صوتي فوق صوته أحيانا دفاعاً عن نفسي ضد أي اتهام..
لا شعوريّاً وجدت أنني أحمي نفسي بتقليد الرجل في كل حركاته؛ غير مدركة أن الرجال أحياناً يحتاجون أيضاً إلى حماية من الظلم الذي يقع عليهم من كل شيء..
أحببت القراءة، وأدمنت ملاحقة الكتّاب عبر نوافذهم التي يطلون منها علينا، ولكن لم تغنني القراءة وحبها عن ميولي التي بدأت تتجه فيما بعد للفتيات الضعيفات في المدرسة، والعمل على حمايتهن من بطش زميلاتهن.. كانت تجذبني الفتاة الجميلة الرقيقة التي تجد في حمايتي لها كل التقدير.. ولأول مرة أحببت ما أنا عليه، ووثقت من تأثيري الصاعق، خاصة عندما راودتني إحدى البنات عن نفسي في حمام المدرسة فعبثنا بجسدينا، وكلانا يرزح تحت وطأة توتر جهلنا المشترك..
هكذا عشقت زميلتي شفق، وأنا في الصف السادس، واستمرت علاقتي بها حتى الأول الثانوي؛ بحكم سكنها القريب من منزل جدتي التي سمحت لي ولها بالمبيت معاً في حال موافقة أهلها الذين كانوا يحبون جدتي، ويشفقون عليها، ويثقون بي أيضاً..
ثم من سيشك في علاقة فتاة بفتاة؟!
كنت وهي ندرس، حتى إذا تعبنا خلعنا ملابسنا لنكتشف أجسادنا ونخفف من ثورتها.. أتحسس صدرها، وتتحسس صدري؛ لنشعر بنشوة لا ندرك معناها.. افترقت وإياها في المرحلة الثانوية..
في المدرسة الثانوية لاحقتني سمعة البنت المسترجلة، فكانت البنات يخشين على أنفسهن مني، ومن سوء سمعتي، غير أني استطعت أن أقيم علاقة بشكل ما مع صديقتي محاسن، بعد كر مني وفر منها، حتى اقتنعت أخيراً بكلامي عن كونها أجمل البنات - رغم قبحها – فأسلمتني نفسها، وأصبحت تأتي لزيارتي كل يوم لندرس، ثم نبتهج معاً..
على الرغم من تلك العلاقات التي كنت أستمتع بها كثيراً.. كنت أحتقرها بيني وبين نفسي؛ فما أن أصبح بمفردي حتى أنخرط في البكاء والدعاء لربي أثناء صلاتي أن يمن علي بالتوبة.. تباعدت زياراتي لمنزل والدي، وأصبحت بالنسبة إليه وإلى إخواني خبراً منسيّاً.. لم يتذكروني إلا عندما ماتت جدتي رحمها الله..
حاول أبي أكثر من مرة أن يغريني بالعودة إلى المنزل معه وبيع البيت الذي سجلته جدتي باسمي، غير أنني رفضت بشدة...
ضربني أكثر من مرة، وحاول أن يعيدني بالقوة، ولكن زوجته التي استأثرت بقلبه أقنعته بتركي وترتيب زيارات مفاجئة ومداهمات لي، مع توصية شديدة اللهجة لأم حسني بالمبيت معي، وعدم تركي بمفردي..
تذكرت كيف توفيت جدتي ذات صباح ربيعي.. فبكيت وحيدة غريبة حتى عن نفسي بعد أن أفقدني موتها صوابي، ولكن رغم أحزاني كلها استطعت أن أنهي الثانوية العامة بتفوق، فالتحقت بقسم العمارة في كلية الهندسة، حسب رغبة جدتي المستنيرة التي تركت أموالها كلها لحفيدتها الشقية؛ كما كتبت في وصيتها التي اطلعت عليها بعد موتها..
قلت في نفسي: لربما ينصلح حالي، وأعود لطبيعتي إلا أن الشيطان أصر على ملازمة خطواتي، حيث بدأت أرتدي ملابس صبيانية حديثة،، وساعدني في ذلك تباعد الأوقات التي يزورني فيها والدي وإخواني..
سبقتني السمعة المقيتة للجامعة؛ إلا ان اجتهادي في دراستي جعل زميلاتي في حاجة دائمة لمساعدتي..
كنت أصطفي البنات المغتربات اللواتي أتين للدراسة، ويقمن بمفردهن، ويدرسن في كليات أخرى، ولا يعرفن عني أي شيء، فأبدأ في غزوهن، وأفكك وحدتهن بزيارات متتالية حاملة معي فطائر من صنع أم حسني، حتى إذا أسقطت إحداهن الخجل مني أخترقها بلمساتي التي تستكين لها، فتسعد بتهدئة ثورة جسدها، لنغيب مرة واثنتين وثلاثاً، كلما حلا لنا أن ترتوي إحدانا من الأخرى..
كانت مشكلتي الدائمة التي تبكيني حتى الموت: أن هؤلاء البنات في النهاية دائماً يتزوجن ويهجرنني..
تخرجت من الجامعة بتقدير جيد جدّاً، ولا أزال أحيا حياتين، واحدة أمام والدي وإخواني وأم حسني، وأخرى أمام نفسي..
تقدم عريس لخطبتي من أبي فرفضت بشدة وقلت له: أنا أنتظر تسلم العمل أولاً، كما أني لا أعرف الرجل، ولا أريد أن أعرفه.
يومها ضربني أبي ضرباً أقعدني أسبوعاً في السرير.. ومنعني من الخروج.
كنت أمعن النظر فيها، وهي ترتدي جلدها الأملس، وتعجبت كيف استطاعت أن تعطي لجسدها ثنائية غريبة بينه وبين روحها.. وتصدعت روحي لمعاناتها التي تداخلت ومعاناتي.
كانت تتكلم بهمس، وفي عينيها شلالات من الحزن تنهمر على حجري أحزاناً سوداء..
- مرت الأيام وأم حسني تطببني، وتبكي من أجلي وهي تتمتم:
- إلهي كسر إيدك يا ناصر.. فيه حد يقسى على بنته وحيدته بالشكل هادا؟!
تعافيت وتسلمت عمل في إحدى الشركات الهندسية الكبرى، تعرفت فيها على زميلة مطلقة اسمها شجون، استطاعت بلطفها أن تكسب ثقتي، وخاصة أنها سألتني أكثر من مرة: لماذا لم أتزوج رغم جمالي؟
لست أدري حتى الآن كيف رويت لها قصتي ومصيبتي وبالتفصيل الممل.. لم تقاطعني حتى انتهيت، فوجئت بها تقبلني وتحتضنني وهي تردد:
- لقد ظلمت نفسك كثيراً لأنك جميلة، وكان من الممكن أن تكون لك أسرة رائعة وزوج يحبك، ولكن ميلك غير الطبيعي الذي غذته في نفسك كراهيتك لوالدك جعلك تتناسين أنه كان من الممكن أن تصبحي إنسانة طبيعية.. اختيارك وللأسف كان اختياراً كارثيّاً كاد أن يقضي عليك.. وعلى الرغم من أنني أحترم الآخرين واختياراتهم ــ لأنهم في النهاية محاسبون عليها ــ إلا أنك كنت مخطئة.. وأقول لك صادقة إنه ما يزال هناك وقت للعودة للطريق القويم.. والله يا نهال لقد هانت على مصيبتي بعدما سمعتك..
هل تعلمين ما السبب في طلاقي؟
كان زواجي تقليديّاً.. ابن جيران لنا كان يعمل في إحدى دول الخليج، تزوجني تحت ضغط والدته وهو في الخامسة والثلاثين.. لم يسأل والدي لماذا بقي لهذا العمر بدون زواج , لأن أمه الناطق الرسمي بلسانه قالت إنه كان يكون نفسه , حتى يوفر لعروسه كل ما تشتهيه..
ومر عام بكامله بدقائقه وساعاته وأيامه يا نهال لم يلمسني زوجي، بل استقر على كنبة في الصالة ينام فوقها.. توددت له كثيراً.. تعطرت.. تزينت.. لبست أجمل ما عندي.. لم يكن أبداً يشتاق.. بل كان يضج ناهراً إياي لأبتعد عنه.. كتمت حسرتي وخيبتي داخل نفسي.. أخفيت الأمر عن كل من حولي حتى أمي، وكأن العار عاري.. كنت أتأمل نفسي في المرآة، وأعجب كيف لرجل أن يقاوم هذا الجمال.. حتى جاء يوم ضجت روحي فشكوته لأمه التي كانت تثقل علي كثيراً بسؤالها الملح عن الحمل.. بعد أن تحدثت لها قامت الدنيا ولم تقعد؛ فابنها "سيد الرجال" كما كانت تناديه.. ولأني تجرأت وهدمت صورة الرجل فيه أمامها , وحتى يداري سوءته , طلقني , وقال في ما قاله مالك في الخمر.. صدقه كل الناس من حولي.. وكان موقف أهلي من أسوأ المواقف؛ إذ أصروا على إثبات عذريتي لدي أكثر من طبيب مصحوبة بوالدي وإخواني!
لم أنس أبداً كيف انتهكت إنسانيتي حتى أحصل على (شهادة عذرية)! أقدمها للمحكمة للحصول على حقوقي من طليقي..
في مكان عملي تعرفت على زميل لي وأحببته بطهر.. تزوجنا وممدوح الصغير يملأ علينا دنيانا الآن.. إننا بالزواج نحافظ على أنفسنا ومجتمعاتنا من التحلل والانحراف.
أصبحت وشجون - بعد أن نثرنا ما كتمناه عن الآخرين أمام بعضنا - صديقتين مقربتين، وكانت كل جلساتنا وهي تحاول رأب الصدع في نفسي حتى أعود فتاة طبيعية تتزوج، وتسعد بعلاقة حقيقية غير محرمة..
كنت قد بدأت أتقبل نفسيّاً الارتداد عما أنا فيه، حتى رآني أخي ذات يوم - وهو الذي كان يجلس إلى إحداهن محتضناً يدها بيده في أحد المقاهي البعيدة عن عمان - مع صديقتي شجون وابنها كاشفة عن شعري القصير، ومرتدية قميصاً وبنطلون جينز خصره ساقط.. رأيت الهلع في عينيه وكأنه قد رأي جن، خرج له فجأة - وكانت تلك أول مرة يراني بتلك الملابس الصرعة التي أغيرها باستمرار في حمام الفندق القريب جداً من بيتنا حتى لا تراني أيضاً أم حسني، وتفتن لوالدي ولو بغلطة لسان غير مقصودة.
وقد تعود موظفو الفندق على رؤيتي أدخل الحمام، ثم أخرج منه في هيئة فتاة عصرية جميلة على آخر صيحة.. كنت في البداية أحمل ملابسي التي أبدلها في حقيبتي حتى صادقت المسؤولة عن الحمامات، بعد أن أشبعتها غزلاً، وأرضيت غرور المرأة فيها فأعطتني مفتاح خزانة من خزانات العاملات في الفندق، وطلبت ألا أخبر أحداً بالأمر..
وهكذا كنت أخرج من الفندق كواحدة من أجمل نساء الأرض المسترجلات..
عندما عدت للبيت، وبعد أن بدلت ملابسي في الأوتيل , وغطيت شعري وجدت أبي في انتظاري وإخواني الخمسة متحلقين حوله، وكأن مصيبة قد وقعت على رأسه، وفجأة وبلا إحم ولا دستور هجم على صارخاً:
- وين كنتي يا تبعة البنات؟ فضحتينا الله يفضحك.. بتفكري أنا ما بسمع اللي بيقولوه عليكي يا داشره يا شر.........؟
حاولت أن أبتعد عنه، فهجم على إخواني.. وهات يا ضرب في أنحاء جسدي، وأنا أصرخ وأستنجد بأم حسني التي كانت تنتحب بشدة وقد أبعدها أحد إخواني حتى ينتهي من تأديبي الآخرون.. تعالت صرخاتي وشتائمي:
- يا أوساخ أنا ما عملت إيشي غلط..
استفز أبي صوتي العالي، وصرخاتي، وشتائمي.. فجأة وعلى غير توقع أحسست بنصل يخترق جسدي , وسط صرخات أم حسني الهستيرية، وطرقات شديدة على باب الشقة وأصوات وهرج ومرج في الخارج، وكان آخر ما أحسست به جارنا وصديق أبي الوحيد أبو ثائر، الذي حملني وهو يردد مخاطباً والدي:
- يا أخي سيبها تنحرق، هي مش صغيرة.. بدك تدخل فيها السجن وهي ما تستاهل؟
لو كنت لحظتها في وعيي لضربت هذا الرجل حتى الموت.
حملوني إلى المستشفى..
تم حفظ المحضر عندما أقررت أنني وقعت على الأرض.. وكانت السكين هناك.. لم يهتموا بكلامي او حتى بسؤالي ؛ لأن المفهوم ضمنيّاً أنه يحق للاهل تأديب الفتاة , وقتلها ايضا من اجل الحفاظ على شرف الرجل الذى يدعي يحمي ملكيته الخاصة و, القانون هنا يغمض عينيه..
حفظ التحقيق، وتعهد الوالد بالحفاظ على حياتي..
ومن يومها وأنا أعيش برفقة خالٍ لي عاد من المهجر ليستقر في عمان بمفرده، بعد وفاة زوجته هناك.. أما والدي وإخواني فلم أسمع عنهم خبر أو أراهمو منذ سنوات..
كان خالي الطيب الرائع لا يأتي على سيرتهم حتى لا أكتئب.. وهكذا كنت أقضي ليالي طويلة باردة وحيدة ظمأى لدفء حقيقي، وحب حقيقي..
حاولت كثيراً أن أتغير , ولكن الجميع حولي كان يناديني بـ "ناهل" فأستكين للوضع حزينة، وأعمل وأقرأ في ظل خالي الرؤوف الذي اعتبرني ابنته المريضة التي يصر على علاجها , خاصة بعد أن أعلن والدي رسميّاً تبرؤه مني.
ومن أجل شجون , ومن أجل عيني خالي الكريم بدأت أتبدل بالفعل، مع العلم بأنه ما تزال بعض الشوائب في نفسي تشدني إلى عالمي.. عالم الأنثى الصاخب.
بكينا معاً، وصمتنا معاً.. وضحكنا على بكائنا.. وكأني أعرفها منذ قرون.. وكأنها تعرفني منذ الأزل..
كانت قصص اللواط , وعلاقة الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة تصيبني بالاشمئزاز والقرف..
فجأة وبلا أي إنذار سمعتها تقول:
- نداء ليش ما نتزوج؟
نظرت إليها ببلاهة ولم أرد.
قالت: على الأقل سأتزوج من ثلث رجل جميل، ولعلك تنقذني فأنت مسجل في الأوراق الرسمية كرجل، وأنا أريد الهروب والنجاة من حياتي القذرة.. فأنت إذن أكثر من يناسبني فقد سقطت في قلبي ساعة أن رأيتك.. أحببت أنوثتك ورجولتك، كما أن وجود الأنثى فيك يبهرني ويسعدني.. هذا يختصر المسافات بيني وبينك. ثم أمسكت بيدي وهمست:
- بليز يا نداء.. أنقذني..
- يا ليت يا حبيبتي أستطيع.. لمن تلجئين ؟ ومن قصدت؟ أنا يا صديقتي حطام.. وكيف وأنا أغرق بحثاً عن طوق نجاة؟! لن أنفعك.
التصقت بي، فلمست روحي بجزعها.. انسابت دموعي من أجلي وأجلها، وارتميت فوق صدرها الدافئ، علها تنقذني من عجزي عن إنقاذها..
قالت - وقد بللت دموعها وجهي المختبئ في ضلوع صدرها الشامخ الممتلئ حناناً: - أنت آخر أمل يا نداء حتى أعود إلى نفسي وأهلي؛ إن علموا بزواجي من رجل.
- على من ستضحكين وشكلي يفضحني، وصدري رمز أنوثتي يطل من تحت ملابسي الفضفاضة ليعلن عن نفسه..
رفضت وبشكل قاطع، وأنا أدرك مدى احتياجي لحب حقيقي من أنثى حقيقية.. ولكن - مع بكائها وإصرارها - وعدتها عند استقرار حالتي الصحية أن أتزوجها..
تبادلنا العناوين وأرقام الهواتف، وغادرتني مبتهجة، مع وعد منها بأن تكون من أجلي فقط، وستنظرني مهما طال الزمن..
أنا قد صحوت علـى الجراح.. تسيـل من بعضـي لبعضأنا قد صحوت وإذ أنا ملقىً بأرض غير أرضي "خليل زقطان"
بدأت بتعاطي الهرمونات الأنثوية حسبما أوصى الدكتور حاييم والدكتور أمجد.
حررت أنوثتي قليلاً، وتأقلمت معها بناءً على نصيحة مستشارتي النفسية، وبدأت بتفحص عالم النساء عن قرب أكثر.. ونفست عن مكنوناتي بطريقتي، حيث دخلت محلاًّ لبيع الملابس النسائية. ووفقاً للتوصيات النفسية اشتريت ما أحسست أنه سيناسبني كأميرة للجمال على حد تعبير نهال.. كسوت نفسي بكثير من الملابس الجميلة التي كنت أتحرك فيها داخل غرفتي..
شيئاً فشيئاً رضخت لسياسة الأمر الواقع وتغيير الهرمونات، مع التزام صارم بالمقادير الطبية المحددة من قبل الدكتور أمجد.
كان لإيقاف الهرمونات الذكرية تأثير مغاير لما للأنثوية، فقد عاد صدري للنمو.. ويوماً بعد يوم بصورة غير طبيعية؛ حتى إن بعض الصديقات وزبونات المحل بتن يحسدنني!
الفصل الثامن: شو بدك يا حلوة؟
ذات يوم اتصلت بي أختي سحر وقالت إنها ستأتي إلى عمان؛ لأنها دبرت لي عملاً في إحدى شركات الكمبيوتر في الخليج..
لم تعطني فرصة الاستفسار عن أي شيء..
كنت قد تغيبت عن زيارة أختي سحر لمدة زادت عن خمسة أشهر.. وعندما رأتني وزوجها بهتت من شكلي، واستهجنته كثيراً وقالت في عجب: غيرت للهرمونات الأنثوية؟
- نعم وبأمر الطبيب..
- ولكن يا حبيبي أنت ستذهب إلى الخليج.. ولن يتقبلوا شكلك هكذا.. خرج زوجها من الغرفة إلى الشارع ليتركني وهي نتحدث على راحتنا.. كم هو إنسان رائع هذا الرجل..
- عليهم تقبل عملي لا الالتفات إلى شكلي.
أصرت سحر على أن أستخدم المشد "الكورسيه" لإخفاء صدري، وطلبت مني أن أقص شعري وأطلق عنان ما تبقى من شعر على الوجه والحاجبين.
بكت سحر عندما علمت ما سببته لي الهرمونات الذكرية.. احتضنتي بحنان وقالت: رحمك الله يا أبي.. ماذا فعلت بنداء.. هذا ذنبك يمشي على الأرض.
بكيت ما شاء لي البكاء فوق صدرها..
في البداية أحسست بغصة من سيفارق عالم يحبه إلى عالم مجهول لا يعرف عنه شيئاً، ولكن عندما فكرت في الأمر وجدت أن من الضروري أن أذهب إلى حيث الحياة الرغيدة، والرواتب المرتفعة، فربما يتغير الحال، وأستطيع أن أوفر أجرة العملية..
كانت سحر قد أحضرت لي فيزا الدخول التي أرسلها زميلها السابق في الدراسة، عندما طلبت منه أن يأخذني لأعمل في شركته التي يمتلكها مناصفة مع أحد الخليجيين..
لم تمكث سحر في عمان إلا يومين أنهيت فيهما كل ما يتعلق بعملي..
ودعتها، وقبلت يدها، وسلمت على زوجها الذي ربت على كتفي هامساً:
- الله معك يا نداء.. سنشتاق إليك كثيراً..
لملمت ما تبقي مني في عمان، واتجهت إلى طائرة حملتني وروحي، مغادرة لأرض جديدة.. بعيداً عن أجزائي المبعثرة..
وفي الطائرة دار شريط ذكرياتي المرة والحلوة.. ووجوه صديقاتي اللواتي كنت أفضح أسراري أمامهن بلا خجل..
كانت النساء دوماً سر عظمتي ونجاحي.. وهن من مددن أيديهن لمساندتي..
في المطار سألني الضابط وهو يتأمل وجهي: الاسم نداء والشكل غير.. ليش؟ ودون أن يتوقف قال:
- وين ورقة الفيزا؟
- أنا آسف.. نسيت أن أعطيك إياها.. ها هي..
- أول مرة تجيين هني يا نداء..
- نعم..
- مرحبا بك..
غمز لي بعينيه وقال: حنا بالخدمة.. إذا تبين رقم تليفوني حاضرين..
شكرته وأنا أغادره.. حملت حقيبتي وخرجت لأجد مندوب الشركة يحمل لافتة عليها اسمي..
- مرحبا..
- مرحبتين.. شو بدك يا حلوة؟
- أنا نداء..
لوهلة سكت المندوب، وفتح عينيه عن آخرهما وقال:
- أنا آسف.. فكرتك رجال ..
حمل الحقيبة بصمت، ومضيت خلفه نحو السيارة.كان الوقت ظهراً وسط لهيب أغسطس.
بدت المدينة جميلة.. هادئة.. معسكر عمل، ورغم حرها فقد أحببتها مذ وطأت قدمي مطارها الذي ما يزال تحت التوسعة..
تسلمت عملي تحت نظرات تكاد تنطق عجباً من شكلي..
قررت أن أطلق العنان لأنوثتي دون اعتراض من أحد حيث لا يعرفني أحد ، رغم أن المدير الأردني زميل أختي سحر استدعاني ذات يوم وقال لي: -
- يا نداء أعرف أنك عبقري في الكمبيوتر.. وقد استطعنا أن نحقق أرباحاً كثيرة من وجودك معنا.. ولكن كفيلي وشريكي يرفض أن تستمر في العمل معنا؛ حتى لا تفتن الشباب في الشركة..
- ولكن هذا ظلم؛ فأنا لا أختلط بأحد.. ولا أتحرش بأحد.. إنما فقط أعمل وأعمل..
- والله لقد شرحت له حالتك، وأعلمته عن تقاريرك الطبية، ولكنه يأبى إلا أن تغادر.. وسيسمح لك بنقل الكفالة إن أحببت..
هزمتني الأنثى بداخلي فبكيت أمامه.. نهض من خلف مكتبه، وتقدم نحوي وربت فوق كتفي بحذر وقال:
- ليس الأمر بيدي والله يا نداء.. وأنت تعلم كم أحبك وأحب أختك سحر.. ولكن ما باليد حيلة.. وعلى كل أنا أفضل أن تبقي كفالتك علي، فهذا سييسر عليك كثيراً من الأمور، وتستطيع أن تعمل في أي مكان.. كما أني سأبعثك لأحد الأصدقاء لتعمل لديه، وشريكه الخليجي أكثر مرونة وتقبلاً لحالتك بعد أن قصصتها عليهما..
- أشكرك أستاذ.. أراك على خير..
انسحبت من أمامه مكسوراً مقهوراً يائساً.. اعتكفت في المنزل لمدة شهر أنا وصديقي الذي لا أمل صداقته "اللاب توب"، وأنيسي الوحيد هرموناتي وأدويتي البديلة، وأمراض نفسي التي لا شفاء منها..
كنت أتسلي بالانتساب لأي مجموعة أون لاين، لأصبح فاكهة كل مجموعة؛ فصورتي صورة امرأة جميلة يتهافت على مهاتفتها كل الرجال، ومن كل الأعمار.. ولكن الصوت صوت رجل.. من هنا كانت تبدأ النقاشات حول هويتي.. كفيضان يتدفق على شجرة مستكينة تدق فوق جسدها الواهن أسئلة لا تنتهي.. خاصة التي تتعلق بحالتي..
وكان أسوأ ما في تلك الأسئلة التي كانت تخترق أذني كصوت زجاج يتكسر دون أي مشاعر أو مراعاة للذوق: تلك التي تخص حالتي وعلاقاتي الجنسية..
سألوني: متي ولدت؟ وكيف عشت؟ ولم يلمسوا العذاب الذي عانيته ولا أزال من الناس حولي..
سألوني في أي مدرسة درست؟ ونسوا آلامي ونذالة الطلاب حولي..
سألوني كيف أمارس الجنس؟ ولم يسألوني عن قيمي التي تمنعني من خدش حيائي وطهارتي!
اتصلت بصديقتي نهال منقذتي.. وبكيت ما شاء لي البكاء فقابلت بكائي ببكاء خلع قلبي، وقالت بعد أن رويت ما حدث لي:
- ولماذا ترفض الذهاب للعمل الجديد؟ ربما يكون أحسن من الأول..
- بالتأكيد سيكون مثل الأول وأزفت..
- لقد تعلمت منك ألا أحكم على الآخرين إلا بالاحتكاك..
- لقد مللت النظرات المندهشة عند رؤيتي وسماع صوتي، تعبت من التحرش الدائم بي..
- نداء: هذا قدرك فلا تشك.. اذهب للشركة الأخرى التي أوصاك بها مديرك السابق..
- ومن قال لك إنني لم أذهب..
- أوكي.. وكيف المكان والعاملون فيه؟
- شوفي يا ستي: استقبلني المدير اللبناني الشاذ أصلاً استقبال الفاتحين، ووضعني على قائمة أصدقائه المقربين من أول نظرة.. وسلمني القسم الخاص بالآي تي، كما رتب لي شقة صغيرة أنيقة ذات موقع استراتيجي..
بقي على علاقته الطيبة بي حتى وصل كفيلنا الخليجي من السفر..
عندما رآني هذا الرجل المحترم وقعت في قلبه كحبة لؤلؤ انغرست في صدفتها، وخاصة أنه يعرف بقصتي كاملة، ومن هنا بدأت الصراعات؛ لأن مديري اللبناني - مع كل كفاءته في العمل - كان غيوراً جداً على صاحب الشركة! وقد لاحظ معاملته الطيبة معي فظن السوء، ومن ثم بدأ يحوك المؤمرات لاقتلاعي من الشركة؛ خاصة عندما علم أنه اصطحبني ذات يوم لحفلة مع بعض أصدقائه حيث سهرنا ليلة من ألف ليلة في فيلا رائعة امتلأت برجال من كل الأجناس، وصبايا من كل لون، وموسيقى صاخبة، وفتيات ورجال يرقصون ويتبارون مع النساء في هز الوسط؛ فشرت فيفي عبده أمامهم!فجأة انتبه الجميع لدخولنا، وعلى الرغم من ملابسي الرجالية الفضفاضة فإن الرجال الكلاب لهم نظرة أيضاً في الجمال، سكتت الموسيقي ليقدمني السيد فطيس وكأني كائن من كوكب آخر.. امتلأت العيون بالدهشة، ورحب الكل بي لأدرك أن تحت السطح الهادئ الساكن للبلد الجميل بركاناً من المعاصي على وشك الانفجار.. بعدما رأيت ما رأيت..
لم يحتك بي أحد يومها؛ احتراماً للسيد فطيس.. كان الكل لاهياً بصديقته أو صديقه، فانتبذت ركناً قصيّاً أراقب منه ما يحدث، حتى إذا كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل دخل ميشيل مدير الشركة، وقد فاحت منه رائحة الخمر، يرعد صاخباً موجهاً كلامه لي: - هيك يا نداء؟ بدك تاخده ع جاهز حبيب ألبي.. واللي خلأك ما بخليك تعيش سانيه!
بهت ووقفت أنتظر أن يوضح ما يقول لأني لم أفهم ماذا كان يعني، ولكن السيد فطيس أخذه بعيداً عني وعن الجميع..
بعدها بقليل دخل السيد فطيس وميشيل والابتسامة تعلو وجهيهما، وتوجه إلى ميشيل محتضناً إياي وهو يردد:
- سوري حبيب ألبي.. اعذرني..
وجهت حديثي للسيد فطيس:
- حصل خير .. بس ممكن أروح هلأ؟
- هيدا انت لسه زعلان حبيبي!
- لا.. ولكن ضروري أكون بالشركة بكير.. منشان عندي شغل كثير..
رد السيد فطيس مبتسماً وقال:
- ولا يهمك.. بكره خله إجازه..
أخذني ميشيل من يدي إلى الخارج موجهاً كلامه للسيد فطيس:
- دئيئة حبيب ألبي.. راجعلك.
- إنت ما بتفهم، شفت هيدا صاحب شركة الصرافه الكبري بده اياك..
- يا ميشيل: انا ما بنفع أي أحد.. وهادا الكلام قلته لك من البدايه؛ ليش بتحاول مرة تانية..
- إنت غبي؟ هيدا بده يغنيك للأبد.. وتسافر معه.. وتعمل العملية.. والحياة بدها تضحك إلك.
تركته وخرجت، فسمعت صوته يردد خلفي:
- ك............. أختك شو غبي , على شو شايف حالك..في طريق عودتي قررت قراراً نهائيّاً بأن أستقيل من الشركة، متحسراً على أجمل المواقع التي قمت بتصميمها، والذي نسبها السيد ميشيل لنفسه..
وها أنا الآن أبحث عن عمل مرة أخرى.
بعد أن خرجت من الشركة بغير عودة اتصلت بصديقتي نهال وشرحت لها ما حدث..
- ولكن من الخطأ يا نداء ألا تثبت في مكان..
- نهال يا حبيبتي: أنت تعلمين كما يعلم غيرك أنني لا أريد من حياتي إلا أن يتركني الناس أعمل فقط..
- هذا عشم إبليس في الجنة؛ فأنت بالنسبة لهم صرعة جديدة، وشيء غريب، ولا بد أن يكون احتكاك بهم وتحرش منهم..
- لا يا نهال: أنا لست معك.. هناك من يتقبلون وضعي، ويحاولون مساعدتي دون استغلالي.. ولكنهم قلة، ومن بينهم الآن سيدة فاضلة تسعى لتشغيلي في قناة فضائية جديدة للأطفال..
- واو , هادا خبر مفرح.. المهم إذا ربنا راد واشتغلت حاول أن تثبت نفسك..
- إن شاء الله.. المهم كيفك انتي؟
- أنا في انتظارك مليت على رأي الست ثومه.. وكل يوم أتخيلك معي نمارس أنوثتنا.. نسخر من الدنيا، وعيناك تحدق في أحزاني فتقتلعها من داخل نفسي لتبقي أنت الأمل الذي أبحر إليه كل يوم، لتكون قربي، تحميني من نفسي, لأهديك كل ألوان الدنيا وزهورها..
- والله صرت شاعرة يا ملعونة.. بس دايماً بتنسي إني أنا لاشيء..
- نداء بلا سخافة.. وحشتني يا نقطة ضوء ظهرت على شاشة حياتي المظلمة.
- بس نقطة؟ والله هادي إهانة.. لكن مقبولة منك يا نونو..
- كيف الصحة الآن بعد الهرمونات الأنثوية يا حلو.
- أنا ولله الحمد في انتظار السرطان كما أكد حاييم وأمجد وبعض الأطباء هنا بالخليج.
- يا رب عدوينك يا قمر.. طيب حبيبي ليش ما تتوقف، وبلاش تاخد الهرمونات لا الذكرية ولا الأنثوية، وخاصة أنو جسمك ثبت على الشكل الأنثوي؟
- من الصعب أن أتوقف.. خاصة في هذه المرحلة من العمر..
- أي مرحلة..
- الخامسة والعشرين خريفاً..
- نداء: نسيت أقول لك: بيكفي تليفون.. هادا كتير.. كلمني على الشات..
- خلص.. خليها لبكره.. أنا تعبان..
- أوكي حبيبي.. دير بالك على حالك..
إلى الجحيم يا أنا ...
بعد فترة قصيرة اجتزت امتحان القناة الجديدة للأطفال.. وقبلت للعمل كمصمم ويب ماستر..
أخذتني التجربة الجديدة.. وسلختني عن عالمي تماماً وغرقت في العمل، ولكن يا فرحة ما تمت، فبعد تجربة عام طويل يحتاج إلى مجلد آخر لكتابة ما مر بي أجبرت على الاستقالة لعدم استقرار حالتي الصحية كما قيل لي! وبعد كر وفر لأيام عديدة وأنا حبيس البيت أتأمل غربتي ووحدتي وحياتي التي بلا معني قررت الرحيل.. لا حاجة لي في دنيا من غير أمن..
كنت أتساءل دائماً.. إذا ما فكرت يوماً بالانتحار.. كيف سيكون ذلك.. يجب أن أبحث عن وسيلة غير مؤلمة..
جرعة زائدة من المخدرات.. من أين سأحصل عليها؟
رصاصة من مسدس.. سم قاتل.. حريق.. غرق.. أم ماذا؟
علي بالبحث عن طرق سهلة للموت.. ولكن هل يزيد الموت الألم أكثر؟ لا تهم الطريقة.. فلا بد أن تنجح واحدة.. المهم التنفيذ..
تداخلت الصور..
ها هو الموت ينتظرني في الأسفل..
تحدثت مع نفسي، وسألتها متى ستقرر الخلاص.. تجاهلت تشبث الأنثى داخلي بالحياة، وحتى تشبث الذكر..
الذكر؟ وأي ذكر.. الأنثى؟ أي أنثى.. والخنثى؟ وأي خنثى.. جميعهم سينالون نصيبهم مني ما عداي.. فخلصني يا رب.. وعجل بخلاصي..
انت تعلم ياربي بأني لست مسؤولا عما انا فيه .. وأظنك لن تعذبني افكر بالخلاص ؛ فأنا جئت لحكمتك التي لم أفهمها..
فقد ضاعت أيامي سدىً، وضاعت معها حقيقتي..
وهل الموت هو الحل المناسب؟
وكيف ستعوضني عن حياتي؟
وهل ستكون لي حياة أخرى؟
هل الموت هو لا مادة.. لا وجود.. لا زمن هناك ولا مكان؟
هل الموت حياه أخرى أكثر تحديداً بالنسبة لي..
أنا أدرك أن الموت بداية نهاية.. فهل هو نهاية للآلام أم بداية لها؟!
وهل هو عالم بلا ذكور وبلا إناث..
هل سيترحم على من عرفوني؟
هل سيشفقون علي؟
هل سيغير انتحاري من هذا العالم القميء الذي لا يفهم الآخر.. ولا يحترم الاختلاف؟
وما المهم في موتي؟ فلأذهب إلى الجحيم ومعي كل أمراضي النفسية..
سكان العالم سبعة مليارات .. فلينقصوا واحداً.. إلى الجحيم يا أنا..
لم تكن يا أنا يوماً سعيداً... فمم الخوف وعلام الحسرة؟
إنها نهايتي أنا.. أخطها صرخة ألم.. أكتبها علها تنقذ من بعدي بعض من كانوا مثلي، أو من سيكونون.. علها عبرة.. أو خبرة.. لمن سيتعاملون مع نفس حالتي..
يبدو أن الموت لا يزال مشغولاً؛ لأنه أقنعني بالتمهل، حتى استعرض شريط حياتي قليلاً قليلاً، قبل اختيار الميتة الميسرة..
تأملت الماضي.. وانسالت الذكريات.. وهمت أدمعي..
تذكرت أبي القاسي.. وأمي الرائقة الصافية.. وأختي سحر الحنون..
تذكرت نهال حبيبتي، تنتظر مني ارتباطاً أبديّاً ــ روحاً وجسداً ــ دون إياب مني..
تذكرت جراحاتي ومعاناتي.. وأحداثاً كثيرة مرت على حياتي..
تذكرت جهاداً صديقي..
تذكرت كل الذين عرفتهم.. والذين لم يعرفوا نصف ما عرفت..
تذكرت الكم الهائل من الكتب التي قرأت..
تذكرت كيف تعلمت الفلك.. وكتبت عنه.. وبرعت فيه..
تذكرت فنون التجميل وحكاياتها المدهشة..
تذكرت كيف كنت بارعاً في البرمجة والتصميم..
تذكرت الناس والمجتمع بمضايقاته التي أجبرتني على التحدي..
تذكرت كم كنتم يا زملاء مدرستي وجامعتي قساة.. بمنتهي القسوة..
تذكرت مشكلة المشكلات في بلادنا.. الاستغلال والاستغلال..
تذكرت - والدمع في عيني - كم كنت صيداً سميناً وسهلاً لهؤلاء المستغلين..
تذكرت كيف ربيت نفسي.. وصنعتها.. وصنتها.. وهذبتها..
تذكرت أن أحداً لم يلمسني.. وكم الاتهامات التي كيلت لي..
تذكرت كم كنت صادقاً مع نفسي والآخرين..
تذكرت بيت لحم وجروح طفولتي ومراتعها..
تذكرت خيباتنا العربية.. وكبواتنا الكثيرة.. وأنظمتنا الفاسدة..
تذكرت تقاليد قومي التي أبداً لم تنصفني..
تذكرت من هم في مثل حالتي.. وتحسرت عليهم.. في ظل عالم يكفر بحكم الله وخلقه..
تذكرت كيف يدفعهم المجتمع إلى سلوك طريق الانحراف بدلا من التميز وإثبات الذات..
تذكرت قول المسيح عليه السلام في توصيفه لنا "إنهم ينهلون من حكمة الرب التي لا نفهمها، بل هم من سيفهمونها.. فترفقوا بهم".
وتذكرت ما جاء في التلمود "إن اللعنة لا تغادر أجسادهم، فأقصوهم بعيداً حتى لا تكون فتنة".
ما يزال دمعي مصرّاً على زرع الغيوم أمام عيني لتختفي أشياء وأشياء..
ورغم كل عذاباتي كبريء صلب من أجل ذنب لم يرتكبه.. ورغم آلامي المعلقة في رقاب كل من عرفتهم.. ولمست خيرهم القليل وشرورهم الكثيرة..
أهديكم يا ناس محبتي وبحوراً هادئة، وسماء تعج بأسراب الطيور، وأفقاً يسبح فيه الأبيض والأزرق.
أهديكم تجربتي التي تعذبت بكم دون ذنب جنيته.. ووردة حمراء ندية عبقة ملتفة.. تزهو على أوراقها الغضة بأنفاس الصباح وهمس الحب..
أهديكم لحظات تلمسون فيها الأرواح المتعبة.. وتربتون عليها برفق..
أهديكم رقصة تبدأ بعد الغروب عند البوابة.. وتنتهي في الفجر على السرير..
أهديكم كلمات تتجاوز الحروف إلى المشاعر مباشرة.. صرخة رفض حرة متمردة.. وكسراً للقيد، وإعلان استقلال من الدرجة الأولى، وأمنيات باحترام عجز الآخرين.. ووعداً لي منكم بصفاء قلوبكم وتجلي مشاعركم.
بهدوء شديد تناول نداء أدويته كلها، وجلس يفرغها من حاوياتها.. أحصاها فتجاوزت المائة وخمسين حبة.. أحضر زجاجة ماء كبيرة.. أخرج رسالة كان يعتز بها كلما ضاقت به السبل.. فتحها أمام عينيه وقرأها.. نهل من كلماتها لعلها تبعث فيه أملاً خابياً.. كانت من أمه الثانية، التي احترمت الاختلاف في شخصه، ووقفت بجانبه، وآمنت به كإنسان لا يختلف عن الآخرين..
جاءت تلك الرسالة في وقت كان على وشك الانتحار, من أحد الشعراء المميزين الذين تعاطفوا مع حكايته عندما رويت أمامه..
قبل أن يقرأها بدأ بتناول حبات الدواء، الواحدة تلو الأخرى، حتى انتهى من تناول مائة وعشرين حبة..
حاول أن يستمر.. لكن بكاءه من أجل ذاته المتصدعة الوحيدة، ودموعه التي لم تتوقف، جعلته يتوقف، لتجري عيونه فوق الأسطر، يلتهمها بنهم قبل النهاية..
رسالة محبة وسلام إلى صديقي نداء...
باسم الثقة في عدالة الله.. وحكمته.. ومحبته العظيمة، ورعايته لنا في كل وقت، وحتى آخر لحظة من حياتنا..
وباسم صداقتي الحضارية لك، ولكل البشر الأخيار الطيبيين الأقوياء بروحهم مثلك..
إسمح لي بأن أحبك بروحي، مؤمناً بروعتك وأنت تكتشف خرائطك الإبداعية, داخلك وهل يمكننا إلا أن نحب أولئك المبدعين مثلك؟
لقد أحببتك بحق، وكأنك جزء جميل مني، من روحي، هذا ما فعلته كلمات وأحاسيس تلك السيدة الرائعة الإنسانة الحنون "............ "
لقد جسدتك أمامي بكل جمالك وعذاباتك المرهفة، فأحببتك أكثر، وقررت على الفور أن أكتب لك يا نداء..
هل انتبهت مرة لاسمك المقترن بطلب العون والغوث، وهما صفتان لله عز وجل "يا معين ويا مغيث"؟ أعرفت الآن سر ما أنت فيه من اختلاف حباك الله به؟
لا تندهش من كلامي هذا، فلعل هناك حكمة عبقرية وراء هذا الاختلاف، أنا شخصيّاً أستطيع أن أدرك أن الله يريد أن يجعلك ويجعلنا نكتشفك أكثر، لأنه عز وجل لا يغلق باباً في نفوسنا وأرواحنا وأجسادنا إلا ويفتح أبواباً، وأنت يا صديقي أكثر شخص يدرك هذه الأبواب المفتوحة في روحك، لعل منها ذلك الحب الكبير الذي تكنه هذه السيدة "الأمومية الساحرة"، ولكني الآن أريد أن أشاركها هذا الحب؛ ليس تعاطفاً معك، بل إعجاباً بقدرتك على تحدي كل شيء، لتنتصر لنفسك المختلفة، ولتثبت لنا أن الاختلاف يمكن أن يحمل في أعماقه إبداعاً فذّاً لا يستطيعه العاديون من أمثالنا، وهذا ما حققته؛ ما دفعني لمحبتك، مستسمحاً إياك أن تضمني لقائمة أصدقائك؛ بل أشقائك.. الذين تشكو من قلتهم..
أخي وصديقي الطاهر المبدع القوي: نداء
أعرف تماماً أنك لن تخذل المعنى الذي يكمن وراء اسمك، فيجب أن تعلم جيداً، وبعلم اليقين - أنك تمتلك من جمال وصفاء الروح وشفافية القلب ما لا يمتلكه الكثيرون من العاديين، ومن المؤكد أن الله يحبك جداً؛ لأنه خلقك بهذه الكينونة، ولعلك تتفق معي أن الله لا يفعل شيئاً لا يحبه، لقد أحب الله الدنيا فخلقها، وأحبنا فخلقنا هكذا بكل ملامحنا وأعماقنا، ولو تأملنا كثيراً ذواتنا، ولو امتلكنا الكثير من الصبر، لاكتشفنا أنه لم يكن هناك أجمل من هذه الكيفية التي خلقنا بها.. وإذا لم نكتشفه الآن فسيساعدنا الله على معرفته فيما بعد، هذا شيء مجرب ومؤكد، لقد أحبك الله يا نداء كما أحب نبيه أيوب الصابر، وأنت صابر يا صديقي، بل كل الطيبين الشرفاء صابرون.. وسيمنحهم الله المكافأة العظمي يوماً ما..
وأخيراً أرجو أن تكرر لنفسك دائماً مقولة الإمام على رضي الله عنه: لا تدع جهل الآخرين بك يغلبك على علمك بنفسك..
ارتخت أخيراً يد نداء.. وأفلتت الرسالة لتسقط بجانبه.. وكفراشة خرجت من شرنقتها.. وفردت جناحيها للطيران في عين النور، غادر نداء دنيانا غير آسفٍ على شيء.. باحثاً عن عالم جديد.. وكينونة جديدة
تحميل الرواية:
http://filaty.com/f/908/17152/roaia_fday_al-gsd.pdf.html
0 التعليقات:
إرسال تعليق